ضرورة المجاز
فقولنا : إن الله تعالى فاعل بمعنى أنه المخترع الموجد
، وقولنا : إن المخلوق فاعل فمعناه أنه المحل الذي خلق الله تعالى فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم ، فارتباط القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع هذا إذا كان المحل عاقلاً وإلا فهو من ترتيب المسببات على أسبابها ، فصح أن يسمى كل ما له ارتباط بقدرة فاعلاً كيفما كان الارتباط ، كما يسمى السياف قاتلاً باعتبار ، والأمير قاتلاً باعتبار ، لأن القتل ارتبط بكليهما ، وإن كان ارتباطه على وجهين مختلفين ساغ تسمية كل منهما فاعلاً ، فمثل ذلك اعتبار المقدورات بالقدرتين ، والدليل على جواز هذه النسبة وتطابقها نسبة الله تعالى الأفعال إلى الملائكة تارة وتارة إلى غيرهم من العباد ، ومرة أخرى نسبها بعينها إلى نفسه ، فقال تعالى : قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، وقال تعالى : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ، وقال تعالى : أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ بالإضافة إلينا ، ثم قال تعالى : أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً الآيات ، وقال تعالى : فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ، ثم قال تعالى : فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ، والنافخ جبريل عليه السلام ، وقال تعالى : فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، والقارئ الذي يسمع النبي قراءته جبريل ، وقال تعالى : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ .. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ، فنفى عنهم القتل وأثبته لنفسه ، ونفى عنه الرمي وأثبته لنفسه ، وليس المراد نفي الحس من قتلهم الكفار ورميه لهم عليه السلام بالحصباء ولكن المعنى أنهم ما قتلوهم ولا رموهم بالمعنى الذي يكون الرب به قتلهم ورماهم وهو الاختراع والتقدير إذ هما معنيان مختلفان ، وتارة ينسب الفعل إليهما معاً كقوله تعالى :وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ.
وروت عائشة – رضي الله عنها - : أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق الجنين يبعث ملكاً فيدخل الرحم فيأخذ النطفة بيده ثم يصورها جسداً ، فيقول : يا رب ! أذكر أم أنثى ؟ أسوي أم معوج ؟ فيقول تعالى ما شاء ، ويخلق الملك ، وفي لفظ آخر : فيصور الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة .
فإذا فهمت هذا اتضح لك أن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة ولا تناقض بينهما ، ولذلك الفعل ينسب تارة للجماد كما في قوله تعالى : تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ، فالشجرة لا يتأتى منها الإتيان بثمرها ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم للذي ناوله تمرة : خذها لو لم تأتها لأتتك .. كما في الطبراني وابن حبان ، فإضافة الإتيان تختلف إلى الرجل وإلى التمرة ، فمعنى إتيان التمرة غير معنى إتيان الرجل ، فالإتيان منهما مجازان مختلفان في الاعتبار ، فمجاز إطلاق الإتيان على الرجل بمعنى أن الله خلق فيه القدرة والإرادة للإتيان بها .
وإتيان التمرة بمعنى أن الله يسبب من يأتي بها ، والحقيقة إنما هي إضافة الإتيان إلى الله تعالى في كل منهما ، ولأجل اختلاف الاعتبار في الوسائط تارة تكون ملاحظة الوسائط في الأفعال كفراً كما في جواب قارون لموسى عليه السلام بقوله : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ، وكما في حديث : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وهذا الكفر باعتبار أن الواسطة مؤثرة ومخترعة ، قال النووي : اختلف العلماء في كفر من قال : مطرنا بنوء كذا على قولين :
أحدهما
هو كفر بالله تعالى سالب لأصل الإيمان مخرج من ملة الإسلام ، قالوا : وهذا فيمن قال ذلك معتقداً أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم ، ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره ، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء ، والشافعي منهم وهو ظاهر في الحديث ، قالوا : وعلى هذا لو قال : مطرنا بنوء كذا معتقداً أنه من الله تعالى وبرحمته وأن النوء ميقات لـه
وعلامة اعتباراً بالعادة ، فكأنه قال : مطرنا في وقت كذا ، فهذا لا يكفر .
واختلفوا في كراهته لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها ، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره ، فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار الجاهلية ، ومن سلك مسلكهم .
والقول الثاني :
في أصل تأويل الحديث : أن المراد كفر نعمة الله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب ، وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب ، ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخيرة في الباب : أصبح من الناس شاكر وكافر ، وفي الرواية الأخرى : ما أنزل الله تعالى من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين . فقوله : بها يدل على أنه كفر النعمة ، والله أعلم اهـ .
فأنت تراه قال باتفاق العلماء على أن من نسب الفعل إلى الواسطة لا يكفر إلا إذا اعتقد أنها هي الفاعلة المدبرة المخترعة ، وإذا لم تكن ملاحظة الواسطة بهذا الاعتبار بحيث أن الواسطة علامة أو ظرف الخلق المقدور فيها فلا كفر ، بل تارة يندب الشرع إلى ملاحظتها كقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه )) .
وقوله صلى الله عليه وسلم :
((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) ..
وذلك لأن ملاحظة الواسطة بهذا الاعتبار لا ينافي رؤية المنة لله سبحانه وتعالى ، وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم بل وأثابهم عليها وهو الباعث لإرادتهم لها . والخالق لقدرتهم عليها كقوله تعالى : نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، وقوله تعالى : لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ، وقـال تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا الآية .
وإذا ظهر لك أن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت الفهم الصحيح السليم .
فالمعاني أوسع من العبارات ، والصدور أوسع من الكتب المؤلفات ، ولو وقفنا مع حقيقة اللفظ دون المجاز ، لم نجد إلى الجمع بين النصوص أو التفرقة من جواز ، ألا ترى إلى ما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله : رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ، أترى أن إبراهيم يشرك مع الله تعالى الجماد وهو القائل : أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ، والأمر الجامع في ذلك أن من أشرك مع الله جل جلاله غيره في الاختراع والتأثير فهو مشرك سواء كان الملحوظ معه جماداً أو آدمياً نبياً أو غيره ، ومن اعتقد السببية في شيء من ذلك اطردت أو لم تطرد ، فجعل الله تعالى لها سبباً لحصول مسبباتها ، وأن الفاعل هو الله وحده لا شريك له فهو مؤمن ، ولو أخطأ في ظنه ما ليس بسبب سبباً لأن خطأه في السبب لا في المسبب الخالق المدبر جل جلاله وعظم شأنه .
تعليقات