ارسال الرسل بلا وجوب عليه


 
57- وَمِنْهُ إرْسَالُ جَمِيْعِ الرُّسْلِ *** فَلاَ وُجُوبَ بَلْ بِمَحْضِ الفَضْلَ

ومنه: تقريره أن مذهب أهل السنة والجماعة أن من أنواع الجائز العقلي على الله تعالى إرساله لجميع الرسل من لدن آدم أبي البشر إلى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، فإرسالهم جائز، وليس بواجب - كما ذهب إليه المعتزلة والفلاسفة - ولا بمستحيل كما ذهب إليه السُّمْنية والبراهمة. أما المعتزلة فقد قالوا بالوجوب، ابتناء على ما أصُلوه من عند أنفسهم، وهو أنه يجب على الله تعالى فعل الصلاح والأصلح لعباده فقالوا: إن النظام المؤدي إلى صلاح حال النوع الإنساني على وجه العموم في معاشه ومعاده لا يتم إلا ببعثة الرسل، وكل ما هو كذلك فهو واجب على الله تعالى. وقد تقدم هدم هذه المقدمات إذ أن عنايته سبحانه فينا لا لشيء منا، وأين كنا حين واجهتنا عنايته وقابلتنا رعايته؟ لم يكن في أزله إخلاص أعمال، ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال وعظيم النوال. فجلّ حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل. وأما الفلاسفة فبنوا الوجوب على قولهم بالتعليل أو الطبيعة فقالوا: يلزم من وجوده تعالى وجود العالم بالتعليل، بأن يكون سبحانه علة العالم، أو بالطبع، ويلزم من وجود العالم وجود من يصلحه. ويرد هذا أنه سبحانه فاعل بالاختيار لا بطريق الإجبار. وأما الطائفة الثانية القائلة بالاستحالة فقد عللت قولها: بأن إرسالهم عبث، لأنه يُستغنى عنهم بالعقل، بأن يجعل مناط فعل الشيء تحسين العقل إياه، ومناط ترك الشيء تقبيح العقل إياه، والعبث على الله تعالى محال، فيكون إرسال الرسل محال. ويرد على هذا: بأنّا لا نسلم أنّ إرسالهم عبث، لأن الأحوال إن انحصرت فيما ذكروا فالبعثة تعضد العقل، وإن لم تنحصر - وهو الواقع - فإنها تفيد حكم ما لا يستطيع العقل الاستقلال به، فإن ما يوافق العقل قد يستقل بمعرفته، فيعاضده النبي، ويؤكده، بمنزلة الأدلة العقلية على مدلول واحد، وقد لا يستقل به فيدل عليه النبي ويرشده إليه. وما يخالف العقل قد لا يكون مع الجزم فيدفعه النبي أو يرفع عنه الاحتمال. وما لا يدرك حسنه ولا قبحه قد يكون حسناً يجب فعله أو قبيحاً يجب تركه، هذا مع أن العقول متفاوتة، فالتفويض إليها مظنة التنازع، على أن العمدة في باب البعثة هو التكليف، ومن شُبَهِهِمْ أنه ليس في التكاليف فائدة، لا للآمر بها لتعاليه عن أن ينتفع بعمل عبده، ولا للمأمور بها لأنه يتضرر باحتماله ما يشق عليه. وهذا ظاهر البطلان، بل إن فيها نفعاً عظيماً للعباد، وكل واحد منا يتحمل كثيراً من المشاق في سبيل تحصيل منفعة لا تقاس أبداً بما يعود عليه من ثواب عبادة الله عز وجل وطاعته، على أن الإسلام حينما نظم حياة الفرد والجماعة والأمة نظمها بشكلٍ لا يدع مجالاً للريبة في أنه إن طبقت أحكامه فلا أسعد ولا أرقى من تلك الأمة على وجه الأرض، وأية فائدة أسمى من هذه. فقول المصنف: "فلا وجوب" نفي لمذهب المعتزلة والفلاسفة، ولم يصرح بنفي المذهب الثاني، إما من باب الاكتفاء أي كأنه قال: فلا وجوب ولا استحالة، وإما لكون مذهبهم ظاهر البطلان بإرسال الرسل فعلاً، فهو مردود بالمشاهدة والعيان وإنما ادعاء الاستحالة مكابرة للحس.
- والخلاصة أن إرسالهم جائز، وأنه واقع منه سبحانه تفضلاً ورحمة لما فيه من الحكم والمصالح الغزيرة، ومنها معاضدة العقل فيما يمكنه أن يستقل بمعرفته كوجوده سبحانه وعلمه وقدرته. قال تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ}. ومنها استفادة الحكم من الأنبياء فيما لا يستقل العقل به مثل مبحث الكلام ورؤيته تعالى، والمعاد الجسماني. ومنها بيان حال الأفعال التي تحسن تارة وتقبح أخرى من غير اهتداء العقل إلى مواطنها. ومنها تكميل النفوس البشرية بحسب استعداداتهم المختلفة في العلميات والعمليات، وتبين الأخلاق الفاضلة، الراجعة إلى الأشخاص، والسياسات الكاملة العائدة إلى الجماعات. فهم قد دلونا على الحكمة من وجود الأكوان، وأرشدونا إلى الله تبارك وتعالى، وبينوا لنا الطريق الموصل إلى رضوانه، وحذرونا من الطريق الموصول بالنار، ونظموا لنا الحياة بما يتلاءم مع واقعية العبودية وأصالتها.
- إرسال جميع الرسل: أي من أفراد الجائز العقلي إرسال الله تعالى جميع رسل البشر حتى تقوم الحجة على المكلفين من الثقلين بالبينات، وتنقطع عنهم سائر التعللات. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
- فلا وجوب: أي إذا علمت أن الإرسال مما يجوز في حقه تعالى فعله وتركه فاعلم: أنه لا وجوب عليه.
- بل بمحض الفضل: أي إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هو بخالص الإحسان وهو مما يحسن فعله، ولا يقبح منه تعالى تركه.
ولما كان قد يتوهم من كون الإرسال من الجائز العقلي، أن الإيمان بوقوعه ليس واجباً، استدرك بقوله:‏

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المستحيل على الله

الواجب لله 20 صفة

5/ صفة القيام بالنفس