الواجب لله 20 صفة
23- فَواجِبٌ لهُ الوجودُ والقِدَمُ *** كَذَا بَقَاءٌ لا يُشَابُ بالعَدَمُ
فواجب له الوجود: تنقسم الصفات الواجبة إلى قسمين، ثبوتية وسلبية، فالثبوتية قسمان. منها ما يدل على نفس الذات، دون معنى زائدة عليها، وهي الوجود. ومنها ما يدل على معنى زائد على الذات وهي صفات المعاني والمعنوية إلا أن هذا المعنى الزائد وجودي في المعاني، وثبوتي في المعنوية، وكلاهما أربع عشرة صفة: القدرة والإرادة، والعلم والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. وكونه تعالى: قديراً، مريداً، عليماً، حياً، بصيراً، سميعاً، بصيراً، متكلماً. فصفات المعاني دلت على معنى زائد على الذات، وكذلك المعنوية، إذ هي عبارة عن قيام المعاني بالذات.
- والسلبية خمس صفات، وهي القدم، والبقاء، والقيام بالنفس، والمخالفة للحوادث، والوحدانية.
وهنا شروع بما يجب لله تعالى، وأول واجب هو:
الوجود: واعلم أن الأشاعرة يعرَّفون الوجود بأنه صفة نفسية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها. وإنما قدم الوجود على بقية الواجبات له تعالى لأنه أصل، وما عداه كالفرع، إذ الحكم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات، وجواز ما يجوز في حقه تعالى لا يتعقل إلا بعد الحكم بوجوب الوجود.
- ومعنى كونه تعالى واجب الوجود أنه لا يجوز عليه العدم ولا يقبله لا أزلاً ولا أبداً، والدليل على ذلك أن نقول: العالم حادث، وكل حادث يجب افتقاره لمحدث، فوجب افتقار العالم إلى المحدث، وهو الله تعالى، وكل من وجب افتقار العالم إليه فهو واجب الوجود، فوجب وجود الله تعالى، ولو لم يكن واجب الوجود لكان جائزه، ولو كان جائز الوجود لما ظهرت الأكوان، كيف وقد ظهرت. لأنه لو كان جائز الوجود لاحتاج إلى محدث يحدثه كما احتاج الكون الحادث إلى محدث، ثم لاحتاج محدثه إلى محدث كذلك، لوقوع المماثلة بينهما، وهكذا، فإما أن يستمر الحال إلى ما لا نهاية وهو التسلسل أو يرجع الأمر إلى الأول، وهو الدور، وكلاهما باطل، وما أدى إليهما، وهو احتياجه سبحانه إلى محدث، باطل أيضاً، فيثبت عدم احتياجه، أي وجوب وجوده سبحانه.
- وحقيقة الدور هي توقف الشيء على ما يتوقف عليه ذلك الشيء فإن كان التوقف بمرتبة واحدة سمي الدور المصرح، كما إذ توقف زيد على عمرو، في حال توقف عمرو على زيد، فكل واحد منهما ينتظر صاحبه أن يوجده. وإن كان بمراتب سمي الدور المضمر "كما إذا توقف آ على ب، وتوقف ب على ج وتوقف ج على آ" وبطلان أنه يلزم عليه كون الشيء الواحد سابقاً على نفسه مسبوقاً بهما، كما لو فرضنا أن زيداً أوجد عمراً وأن عمراً أوجد زيداً متقدماً على نفسه، متأخراً عنها، وأن يكون عمرو كذلك، وهذا يؤدي إلى اجتماع النقيضين، وهو باطل.
- وأما حقيقة التسلسل فهو أن تفرض سلسلتين، إحداهما من الآن إلى ما لا نهاية له في جانب الماضي، وتبدأ الأخرى من قبل الآن - وليكن عهد الطوفان - إلى ما نهاية له في جانب الماضي، ثم تطبيق السلسلتان، إحداهما على الأخرى فلا يخلو حالهما إما أن تتساويا، وهو باطل لأنه يلزم تساوي الناقص بالزائد "أي تساوي السلسلة الآنة بالطوفانية وإما أن تتفاوتا، وهو الصحيح، فإن مقدار التفاوت بينهما معلوم، وهو ما كان من الطوفان إلى الآن، وهو مقدار متناه، والذي يزيد بمقدار متناه يكون متناهياً أيضاً، ولابد من انتهاء الحوادث في جانب الماضي، ومعنى انتهائها أنها مسبوقة بعدم أي لم تكن ثم كانت.
- والوجود: صفة نفسية، ونسبت للنفس بمعنى الذات لأنها لا تتحقق خارجاً بدونها.
- والقدم: هذا شروع في الصفات السلبية، وهي التي دلت على سلب ما لا يليق به سبحانه أي تسلب من الذهن أضدادها، وهي غير منحصرة على الصحيح، وإنما عد المصنف منها خمساً لأنها من مهمات أمهاتها، ولأن الشارع الحكيم لم يكلفنا تفصيلاً إلا بها.
- والمراد بالقدم في حقه تعالى: القدم الذاتي، وهو: عدم افتتاح الوجود، أو عدم الأولية للوجود. وأما القدم في حقنا فالمراد به الزماني، وهو طول المدة، وهذا مستحيل في حقه تعالى
قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فالأول: هو قبل كل شيء بلا بداية والآخر: هو بعد كل شيء بلا نهاية.
وإن قلت: إن وجوب الوجود يستلزم القدم بل والبقاء، فذكرهما بعده محض تكرار! قلت: علماء هذا الفن لا يكتفون بدلالة الالتزام، بل يصرحون بالعقائد لشدة خطر الجهل بها * ودليل القدم: أنه لو لم يكن قديماً لكان حادثاً، ولو كان حادثاً لافتقر إلى محدث وهكذا محدثه يفتقر إلى محدث لانعقاد المماثلة بينهما، حتى ننتهي إلى الدور أو التسلسل وكلاهما باطل، ويلزم أن حدوثه باطل كذلك، وإذا ثبت بطلان الحدوث ثبت القدم، إذ لا واسطة بينهما.
- فائدة: انشعبت الأقوال في القديم والأزلي إلى ثلاثة، الأول: أن القديم هو الموجود الذي لا ابتداء لوجوده، والأزلي ما لا أول له، عدمياً كان أو وجودياً. فعليه الصفات السلبية لا توصف إلا بالأزلية، بخلاف الذات العلية، والصفات الثبوتية، فإنها توصف بالقدم والأزلية. الثاني: أنهما مترادفان، الثالث: أن القديم هو القائم بنفسه الذي لا أول لوجوده، والأزلي هو ما لا أول له، عدمياً كان أو وجودياً، قائماً بنفسه أو لا.
فعليه الصفات مطلقاً لا توصف بالقدم لأنها غير قائمة بنفسها، وتوصف الذات العلية بكل منهما.
- كذا بقاء: المراد بالبقاء في حقه تعالى عدم الآخرية للوجود، أو عدم اختتام الوجود. ودليله: أنه لو جاز عليه العدم لاستحال عليه القدم، إذ كل ما ثبت قدمه استحال عدمه، وقد سبق دليل وجوب القدم قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}
- تنبيه: عدمنا في الأزل لا أول له، وله آخر. والمخلوقات لها أول ولها آخر ما عدا نعيم الجنة وعذاب النار، فلهما أول وليس لهما آخر، فكل منهما باقي، لكن شرعاً لا عقلاً، لأن العقل يجوز عدمهما.
- لا يشاب بالعدم: لا يلحق بقاء الله تعالى عدم، أو لا يشاب بجواز العدم، وهو معنى البطلان في قول لبيد رضي الله عنه: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
ــــــ
24- وأَنهُ لِمَا ينالُ العَدمُ *** مخالفٌ، بُرهانُ هَذا القِدَمُ
وأنه لما ينال العدم مخالف: أي وواجب له تعالى أنه مخالف للحوادث التي يلحقها العدم. والمخالفة للحوادث عبارة عن سلب الجرمية ولازمها (التحيز) والعرضية ولازمها (القيام بالغير) والكلية ولازمها (الكبر) والجزئية ولازمها (الصغر) إلى غير ذلك من سمات الحوادث، كالفوقية والتحتية. فهو سبحانه ليس بجسم، لأن كل جسم مؤلف من جواهر، وكل جوهر متحيز لا يخلو عن أن يكون ساكناً في متحيزه أو متحركاً وكلا الحركة والسكون حادثان، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، إذاً فالجواهر حادثة وبالتالي يثبت حدوث الأجسام.
- وهو سبحانه وتعالى ليس بعرض، لأن العرض لا يقوم بنفسه، بل لابد له من جسم يقوم به. وقد ثبت حدوث الأجسام فيثبت بالتالي حدوث الأعراض. ولأن الله سبحانه متصف بصفات المعاني (وهي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام) ولا تعقل هذه إلا لموجود قائم بنفسه، مستقل بذاته، ولهذا قال: برهان هذا القدم: أي دليل مخالفته سبحانه للحوادث وهو دليل القدم. وذلك بأنه لو لم يكن مخالفاً لها لكان مماثلاً، ولو كان مماثلاً لها لكان حادثاً، كيف وقد سبق ثبوت قدمه سبحانه، وقد قال الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي لم يكن له أحد مكافئاً. وقال أيضاً: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} والفاطر هو الخالق على غير مثال سبق. وإذا ما ألقى الشيطان في الذهن أنه إذا لم يكن المولى جرماً ولا عرضاً، ولا كلاً، ولا جزءاً، فما حقيقته؟ فقل في رد ذلك: لا يعلم الله إلا الله، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بيد أنه قد ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قوماً تفكروا في الله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَفكَّروا في خلقِ اللهِ، ولا تَتَفكروا في الله فإنكم لن تَقدِروا قدْرَهُ". وورد أيضاً "أن الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار، وأن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه" وسئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه هل يتأتى لبشر أن يدرك الله؟ فقال: العجز عن الإدراك إدراك وسئل سيدنا علي كرم الله وجهه: بم عرفت ربك؟ قال عرفته بما عرفني به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالقياس، ولا يشبه بالناس، قريب في بعده، بعيد في قربه، فوق كل شيء، ولا يقال تحته شيء، وأمام كل شيء ولا يقال أمامه شيء. وقال الجنيد رضي الله عنه: لا يعرف الله إلا الله. بيد أن هذه النصوص وأمثالها إنما تنفي معرفة الله تعالى من حيث كنه ذاته وكنه صفاته، وأما معرفة الله تعالى من حيث وحدة ذاته أو وحدة صفاته أو وحدة أفعاله فهي واجبة على كل مكلف بل هي أول الواجبات عليه، ويليها معرفة أحكام العبادات والمعاملات، وتزكية النفس وتخليصها من آفاتها وأخلاقها المذمومة.
وقد ذكر النسفي والخازن في تفسيريهما أن ابن عباس رضي الله عنهما قال في معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي وحدوا ربكم، وقال: كل ما ورد في القرآن من العبادة معناه التوحيد. وذكر النسفي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أن معناه إلا ليعرفوني، ثم قال: وهذا حسن، لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده. ونقل القرطبي عن مجاهد أن معنى قوله تعالى {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}. إلا ليعرفوني. وها هو العلامة أحمد الصاوي يشرح هذه المعرفة المطلوبة بقوله: معرفة العبد ربه نور يقذفه في قلبه، فيدرك بذلك أسرار ملكه، ويشاهد به ملكوته ويلاحظ صفاته، وهذا معنى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي منورهما ومنور قلوب المؤمنين فيهما. وقد عبر الصوفية رضي الله عنهم عن معرفة الله سبحانه بالوصول إليه وقال ابن عطاء الله: "وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به، إذ جل ربنا أن يتصل به شيء أو يتصل هو بشيء". وقال النوري: الاتصال مكاشفات القلوب ومشاهدات الأسرار في مقام الذهول. وقال الإمام الغزالي: اعلم أن الاتصال والمواصلة - فيما أشار إليه الشيوخ - لكل من وصل إلى صفو اليقين بطريق الذوق والوجد، وهو رتبة في الوصول، ثم يتفاوتون، فمنهم من يجد الله بطريق الأفعال، وهو رتبة في التجلي، فيفنى فعله وفعل غيره لوقوفه مع الله تعالى. ومنهم من يوقف في مقام الهيبة والأنس بما يكاشف قلبه من مطالعة الجلال والجمال وهو تجل بطريق الصفات، وهو رتبة في الوصول، ومنهم من يرقى إلى مقام الفناء مستملياً على باطنه أنوار اليقين والمشاهدة، مغيباً في شهوده عن وجوده، وهذا ضرب من تجلي الذات لخواص المقربين، وهذه رتبة في الوصول وفوق هذا حق اليقين، ويكون من ذلك في الدنيا للخواص لَمُحٌ، وهو سريان نور المشاهدة في كلية العبد حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه حتى قالبه، وهذا من أعلى رتب الوصول. وقد بين معنى القرب من الله تعالى فقال "وحقيقة الأنس: استبشار القلب وفرحه لما انكشف له من قرب الله تعالى وجماله وكماله" وقال بعضهم: حقيقة القرب فقد حس الأشياء من القلب، وهدوء الضمير إلى الله تعالى قلت: وهذا هو الوسيلة لنيل القرب، لا نفس القرب، لأن هذا هو طهور القلب عما سوى الله تعالى، وإذا تطهر القلب عما سوى الله تعالى كان حاضراً معه، لأنه ليس بين العبد وبين الله إلا حجاب نفسه وعوارضها، فإذا فني عنها وعن عوارضها، وعلم قيام العالم كله بقدرة الله تعالى عرف قرب الله تعالى منه، وجملة ذلك أن كل ذرة من بدء العالم وبدء الإنسان قد تعلق علم الله تعالى بها كشفاً، وإرادته تخصيصاً، وقدرته إيجاداً وإبقاء، والصفات لا تفارق الموصوف بل صفاته قائمة بالموصوف، فإذا نطق العارف فلا ينطق بنفسه، وإذا سمع فلا يسمع بنفسه، وهكذا ورد في الحديث: (كنتُ سَمْعهُ الَّذي يَسمع بهِ وبصرهُ الذيْ يُبصِرُ به.. الحديث).
فالعارفون تنشأ أحوالهم عن قرب الله تعالى، وأما الأبرار فتنشأ أحوالهم عن ملاحظة علمهم بوجود الرب مطلقاً، مع العلم باقتداره على المنح والعطاء والإسعاد والإشقاء. والعارفون يرون ربهم في الدنيا بعين الإيقان والبصائر، وفي الأخرى بالأبصار، فهو قريب منهم في الدارين، وليس قربه منهم في الأخرى مخالفاً لقربه في الدنيا إلا بمزيد اللطف والعطف، وإلا، فقد ارتفع هنا وهناك قرب المسافة ولم يكن بينه وبين مخلوق إضافة، لا في الدنيا، ولا في الآخرة البتة. وهذه المعرفة مثمرة للأنس بشرط الصفاء، والأنس يثمر السكينة.
ــــــ
25- قيامُهُ بالنفسِ وَحدانيةْ *** مُنزَّهاً أَوصَافُهُ سَنِيَّةْ
قيامه بالنفس: أي وواجب له تعالى قيامه بالنفس. والمراد بالنفس الذات، لأن الصحيح جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى والمراد بالقيام بالنفس عدم افتقاره تعالى إلى المحل والمخصص.
- فأما عدم افتقاره إلى المحل فيراد به عدم افتقاره لذات يقوم بها، لا بمعنى عدم افتقاره إلى المكان، لأنه منف في حقه تعالى بصفة المخالفة للحوادث. وأما المراد بالمخصص فالموجد، وهذا - وإن كان مستغنياً عنه بالقدم - مذكور لعدم كفاية دلالة الالتزام في علم التوحيد. ودليل عدم الافتقار إلى المحل أنه: لو افتقر إليه لكان صفة ولو كان صفة لما اتصف بصفات المعاني والمعنوية، وهي واجبة القيام به تعالى وإذا بطل كونه صفة بطل افتقاره إلى محل، وثبت عدم الافتقار.
ودليل عدم الافتقار إلى المخصص أنه لو افتقر إليه لكان حادثاً، كيف وقد سبق وجوب وجوده، وقدمه، وبقائه ذاتاً وصفات.
- تنبيه: علم مما تقدم أنه سبحانه مستغن عن المحل والمخصص معاً، أما صفاته فهي مستغنية عن المخصص، وقائمة بذاته تعالى. ولا يعبر عنها بالافتقار إلى الذات، لما فيه من الإيهام.
وذوات الحوادث مفتقرة إلى المخصص، وصفاتها مفتقرة إلى الذات والمخصص معاً، وإذا ما تذوقت فقرك الذاتي وجدت أنه لا حول لك ولا قوة إلا بربك سبحانه، ووجدت أن كل مالك وارد من المنعم إليك، وناشر جنح التفضل عليك. ولقد قال الحكيم ابن عطاء الله: فاقتك لك ذاتية، وورود الأسباب مذكرات لك بما خفي منها والفاقة الذاتية لا ترفعها العوارض.
- وحدانية: أي وواجب له سبحانه وحدانية. ومبحثها هذا أشرف المباحث، لذا سمي هذا الفن علم التوحيد. وأعلم أنه لما ثبت أنه لا خالق سوى الله تعالى لزم أنه لا يستحق العبادة غيره. إذ أن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - أي استحقاق العبادة - متلازمان عرفاً وشرطاً، فالقول بأحدهما قول بالآخر، والإشراك في أحدهما إشراك في الآخر. فمن اعتقد أنه لا رب ولا خالق إلا الله تعالى لم ير مستحقاً للعبادة إلا هو سبحانه. ومن اعتقد أنه لا يستحق العبادة غيره سبحانه كان ذلك بناء منه على أنه لا رب إلا الله. ومن أشرك مع الله غيره في العبادة كان لا محالة قائلاً بربوبية هذا الغير. هذا ما لا يعرف في الناس سواه، فإن من لا تعتقد له الربوبية استحال أن يتخذ معبوداً، لهذا نجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكتفون بالدعوى إلى التوحيد لأحدهما، ويضعون كلاً منهما موضع الآخر. ولما تقرر في عقول الناس أنهم لا يعبدون غير الله إلا إذا أشركوا هذا الغير في الربوبية فإذا انمحى عنهم هذا الإشراك تبعه التوحيد في العبودية. وابتداء كلامه سبحانه في فاتحة الكتاب بـ: (الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ) يشير إلى تقدير توحيد الربوبية، المترتب عليه توحيد الألوهية المقتضي من الخلق تحقيق العبودية. وهو ما يجب على العبد أولاً من معرفة الله سبحانه وتعالى. والحاصل: أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية، دون العكس في القضية، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقوله حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} بل غالب سور القرآن وآياته متضمنة نوعي التوحيد. بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما، وتحقيق شأنهما. فإن القرآن، إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري وإما دعوة إلى عبادته وحده، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في العقبى، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب والسلاسل والأغلال، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. إذن فالقرآن كله في التوحيد وحقوق أهله والثناء عليهم، وفي شأن ذم الشرك وأهله وجزائهم. والمراد هنا وحدة الذات والصفات، بمعنى عدم النظير فيهما.
أما وحدة الذات بمعنى عدم التركب من أجزاء فسبقت في المخالفة للحوادث، ووحدة الصفات بمعنى عدم تعددها من جنس واحد، كقدرتين فأكثر - مثلاً - فستأتي في قوله "ووحدة أوجب لها". وأما وحدة الأفعال بمعنى أنه لا تأثير لغيره سبحانه في فعل من الأفعال فستأتي أيضاً في قوله: "فخالق لعبده وما عمل".
والحاصل أنّ الوحدانية الشاملة لوحدانية الذات والصفات والأفعال تعني أولاً - بالنسبة للذات أنها غير مركبة من أجزاء، وأنها غير متعددة بحيث يكون ثمة إله ثان، فهي واحدة من غير تركيب ولا تعدد.
ثانياً - بالنسبة للصفات تعني أنها غير متعددة من جنس واحد كقدرتين فأكثر - مثلاً - وأنه لا يوجد صفة لأحد تشبه صفته تعالى.
ثالثاً - وبالنسبة للأفعال فتعني أنه لا يوجد لغير الله فعل من الأفعال على وجه الإيجاد وإنما ينسب الفعل لغير الله تعالى على وجه الكسب والاختيار.
وفي ذلك رد على المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وإنما لم يكفروا بذلك لاعترافهم بأنّ إقدارهم عليها من الله تعالى، وبعضهم كفرهم وجعل المجوس أسعد حالاً منهم، إذ المجوس قالوا بمؤثرين اثنين، وهؤلاء أثبتوا مالا حصر له. والراجح عدم كفرهم.
ودليل الوحدانية بالمعنى المراد هنا - وهو وحدة الذات والصفات بمعنى عدم النظير فيهما - أنه لو كان ثمة إلهان لما وجد شيء من الأكوان، ووجودها بالفعل مبطل للتعدد، فتثبت الوحدانية، وإنما لزم من التعدد عدم وجود العالم لأنه لو كانا إلهين، فإما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فلا يمكن أن يوجداه معاً، لورود مؤثرين معاً على أثر واحد - كمطرقتي الحداد فإنهما لا تقعان معاً - ولا يمكن أن يوجداه مرتباً، لأنه إن أوجده الأول فالثاني لا محل له. ولا يمكن أن يختص أحدهما ببعضها والآخر ببعضها الآخر، لأنه إذا تعلقت قدرة الأول بشيء فمعناه انسداد الطريق أما قدرة الثاني للتعلق به، وهذا عجز يقضي بأنه ليس بإله.
وإن اختلفا بأن أراد أحدهما إيجاد العالم، والآخر إعدامه، فلا يمكن أن ينفذ مرادهما معاً، لأنه يترتب عليه اجتماع الضدين، ولا يمكن أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، لأنه يعني عجز الذي لم ينفذ مراده، وهو بالتالي ليس بإله، إنما الذي نفذ مراده هو الإله.
وإذا بطل التعدد لبطلان ما يترتب عليه ثبتت الوحدانية، وفقئت عين الشرك. وقد ذكر الله سبحانه هذا الدليل في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} أي لو كان فيهما جنس الآلهة غير الله لم توجدا.
- ملاحظة: يجوز اتفاق الإلهين - على فرض التعدد - إنما ببادئ الرأي وعند التأمل لا يصح الاتفاق لأن مرتبة الألوهية تقتضي الغلبة المطلقة، كما يشير له قوله تعالى: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
- منزهاً أوصافه سنية: هذا تأكيد للصفات السابقة، أي وجبت له هذه الصفات حال كونه منزهاً، وحال كون أوصافه سنية، أي رفيعة رفعة معنوية.
ـــــ
26- عَنْ ضِدِّ أَو شَبَهٍ شَرِيْكٍ مُطْلَقَاً *** وَوَالِدٍ كَذَا الوَلَدْ والأصْدِقَا
عن ضد: أي منزهاً عن ضد، والضدان هما أمران وجوديان بينهما غاية الاختلاف لا يجتمعان بحال، ولو فرض أن له سبحانه ضداً في ذاته أو صفاته لوجب ارتفاع ذات الله سبحانه وصفاته ما دام الضد ثابتاً، كيف وقد ثبت وجوب الوجود والقدم وباقي الصفات.
- أو شبه شريك مطلقاً: والشبه كالشبيه، وهو المساوي في أغلب الوجوه والنظير هو المساوي في بعضها، والمثيل هو المساوي في جميعها. والمراد بالشبه هنا مطلق المشابه فليس له تعالى شبيه في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لوجوب مخالفته تعالى للممكنات، ذاتاً وصفات وأفعالاً.
ومراده بالشبه نفي المشابه من الممكنات، ومراده بالشريك نفي المشارك من القدماء ويؤخذ في نفي الشريك دليل الوحدانية، ومراده بقوله:
- مطلقاً: نفي الشريك في الذات أو الصفات أو الأفعال، كذلك نفي مطلق المشابه في الذات أو الصفات أو الأفعال.
- ووالد: أي منزهاً عن أب وأم، فهو سبحانه ليس منفصلاً عن غيره.
- كذا الولد: فكما تنزه عن الولد، فالوجوب تنزيهه عن الوالد كوجوب تنزيهه عن الولد، فليس سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ولداً بل خلقه الله تعالى بلا أب، كما خلق آدم عليه السلام بلا أب، بل آدم أغرب وأدل على القدرة، حيث خلقه من تراب بلا أب ولا أم. وكما أنه ليس منفصلاً من شيء، ليس منفصلاً عنه شيء.
- والأصدقا: التنزيه منصب على الواحد والجمع، فمجال النفي أن يكون لله صديق على الوجه المعتاد من أن كلاً يعاون الآخر وينفعه، أما الصديق بمعنى المخلص في عبادته تعالى فلا ينافي، لكن لا يجوز أن يطلق "صديق الله" لأنه لم يرد، ويوهم المحال. وكما يستحيل على الله الأصدقاء يستحيل العداء على الوجه المعتاد، من أن كلاً يؤذي الآخر ويضره، أما بمعنى المخالف لأمره فقد ورد: {وَيَومَ يُحْشَرُ أعْداءُ الله إلى النَّارِ} والأصل القاطع في ذلك، المؤكد للدليل العقلي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}
وقد نفت هذه السورة أنواع الكفر الثمانية.
1- فقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} نفي الكثرة والعدد، فهو متوحد في ذاته متفرد بصفاته.
2- وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} الصمد هو الذي يقصد في الحوائج، المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد، وهنا نفي للقلة والنقص.
3- وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} نفى أن يكون تعالى علة لغيره، أو أن يكون معلولاً، أي ليس هو سبحانه بمحل للحوادث ولا بحادث.
4- وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} نفى الشبيه والنظير، أي ليس له أحد مماثلاً أو مجانساً أو مشابهاً.
ـــــ
27- وَقُدْرَةٌ إرَادَةٌ وَغَايَرَتْ *** أَمْرَاً وَعْلِمَاً والرِّضَا كما ثَبَتْ
وقدرة: لما تكلم على الصفة النفسية، والصفات السلبية شرع يتكلم على صفات المعاني مقدماً لها على الصفات المعنوية، لكونها كالأصل لها، إذ أن المعنوية عبارة عن قيام المعاني بالذات. والمعاني جمع معنى، وهو كل صفة قائمة بموصوف موجبة له حكماً، كقيام القدرة بالذات، فإنه يوجب كونه قادراً.
وبدأ المصنف من صفات المعاني بالقدرة لظهور تأثيرها، والقدرة صفة واجبة لله تعالى ومعناها - لغةً - القوة والاستطاعة، وعرفاً صفة أزلية قائمة بذاته تعالى يتأتى بها إيجاد كل ممكن وإعدامه على وفق الإرادة، وهذا التعريف مع سائر التعاريف المذكورة للصفات لا يتناول الحقيقة لأنه لا يعلم كنه ذاته وصفاته إلا هو سبحانه.
وللقدرة تعلقات سبعة، أشار إلى واحد منها - وهو الصلوحي القديم بقوله: يتأتى بها. ومعنى التعلق الصلوحي صلاحيتها في الأزل للإيجاد وللإعدام. والتعلقات الستة الباقية هي: تعلق قبضة: وهو تعلقها بعدمنا فيما لا يزال قبل وجودنا. تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإيجادنا بالفعل بعد العدم السابق. تعلق قبضة: وهو تعلقها باستمرار الوجود بعد العدم. تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإعدامنا بالفعل بعد الوجود.
تعلق قبضة: وهو تعلقها باستمرار العدم بعد الوجود. تعلق بالفعل: هو تعلقها بإيجادنا بالفعل حين البعث يوم القيامة. والتعلق هو: طلب الصفة أمراً زائداً على قيامها بالذات. وقيل: هو من مواقف العقول، فلا يعلمه إلا الله تعالى، والتحقيق هو التعريف الأول.
- ومعنى تعلق القبضة: أن الممكن في قبضة القدرة، فإن شاء الله تعالى أبقاه على عدمه، وإن شاء أوجده، وإن شاء أعدمه. وأما العدم الأزلي فلا تتعلق به القدرة، لأنه واجب، لا جائز وإلا لجاز وجودنا في الأزل وهو باطل، لما يلزم عليه من تعدد ذوات القدماء.
وذهب الأشعري إلى أنها لا تتعلق بإعدامنا بعد وجودنا بل إذا أراد الله عدم الممكن قطع عنه الإمداد فينعدم بنفسه، كالفتيلة إذا ما انقطع عنها الزيت انطفأت بنفسها قال سيدي محمد الهاشمي: فلولا إنعامه على المكونات بإيجادها لم توجد، ولولا إنعامه عليها بإمدادها في كل لحظة لاضمحل وجودها، لأنها تقبل العدم في كل لحظة؟
وقال ابن عطاء الله: "نعمتان ما خرج موجود عنهما، ولابد لكل مكوّن منهما، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد. أنعم عليك أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الأمداد". وهذا معنى كون الأكوان مسبوقة بالعدم، ويلحقها العدم، ويجوز عليها في كل لحظة من أزمنة وجودها العدم، وقد قال العلامة ملا علي القاري: إن (واجب الوجود): هو الصمد الغني الذي لا يفتقر إلى شيء، ويحتاج كل ممكن إليه في إيجاده وإمداده. ومعنى (القيوم): هو المتضمن كمال غناه، وكمال قدرته، وافتقار غيره إليه في ذاته وصفاته، إيجاداً وإمداداً، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته.
وقد قال الدسوقي: إن القدرة تتعلق بوجود الممكن اتفاقاً تعلق تأثير، وكذا تتعلق بعدمه الطارئ بعد وجوده تعلق تأثير على المعتمد.
بيد أن التأثير حقيقة إنما هو للذات، وإسناده للقدرة إنما هو بطريق المجاز لكونها سبباً فيه. ولذا يحرم أن يقال: القدرة فعّالة، أو انظر إلى فعل القدرة، أو نحو ذلك، لما فيه من إيهام أنها المؤثرة بنفسها، فإن قصد ذلك كفر.
ولا تتعلق القدرة بالواجب، ولا بالمستحيل، لأنها إن تعلقت بالواجب، فإما لأن توجده، وهو موجود، إما لأن تعدمه، وهو لا يقبل العدم بحال. ولأنها إن تعلقت بالمستحيل، فإما لأن توجده وهو لا يقبل الوجود بحال، أو لأن تعدمه، وهو معدوم أصلاً ويظهر من هذا أنّ عدم تعلقها بالواجب أو بالمستحيل إنما كان لأنهما خارجان عن وظيفتها، وهي الإيجاد والإعدام، لا لعجز فيها، إذ أنّ العجز إنما يكون إذا كان المتعلَّق من وظائف القدرة، بأن كان يقبل الوجود لذاته، أو العدم لذاته. أفرأيت إلى العين ووظيفتها الإبصار، أفيعد نقصاً فيها إن لم تسمع الأصوات؟ وهكذا تقول في الأذن - ولله المثل الأعلى - إذ ليس عجزاً أن لا ترى الأذن، بل العجز فيها إن لم تسمع.
والقدرة تبرز ما خصصه الله تعالى بإرادته أزلاً. فيكون تعلق الإرادة - لكونه أزلياً - سابقاً على تعلق القدرة، لكونه تنجيزياً حادثاً، وهذا التعلق التنجيزي الحادث هو المعبّر عنه بالخلق والرزق والإحياء والإماتة المسمى عندنا بصفات الأفعال.
والتنجيز هو الإيجاد أو الإعدام بالفعل.
ودليل وجوب القدرة: أنه لو لم يتصف بها لاتصف بنقيضها وهو العجز، ولو كان متصفاً بالعجز لما ظهر شيء من الأكوان، كيف وقد ظهرت، فظهورها نافٍ للعجز، وبانتفائه تثبت القدرة.
- إرادة: أي وواجب له إرادة، ويردفها المشيئة. وهي لغةً: مطلق القصد، وعرفاً: هي صفة قديمة زائدة على الذات، قائمة بها تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم. ومما يجوز على الممكن: الوجود أو العدم، وكونه في زمن مضى أو في زمن حاضر، أو في زمن مستقبل، وكونه أسود أو أبيض - مثلاً - وكونه طويلاً أو قصيراً، وفي جهة المشرق أو المغرب - مثلاً.
وللإرادة تعلق صلوحي قديم، وهو صلاحيتها في الأزل للتخصيص، وتعلق تنجيزي قديم، وهو ثبوت التخصيص بالفعل أزلاً أيضاً. فالله تعالى خصص الأشياء أزلاً بالصفات التي يعلم أنها توجد عليها في الخارج.
- والإرادة - كالقدرة- لا تتعلق بالواجب، ولا بالمستحيل، ولكنها تتعلق بالممكن الذي يشمل الخير والشر، والنفع والضر خلافاً للمعتزلة في قصرها على الخير والنفع.
- واختلف العلماء في جواز نسبة الشرور والقبائح إليه تعالى، والراجح جواز ذلك في مقام التعليم فقط. وهذا الخلاف نفسه جار في نسبة الأمور الخسيسة إليه تعالى، والأصح الجواز في مقام التعليم فقط فعليه لا يجوز أن يقال: الله خالق القردة والخنازير إلا في مقام التعليم.
ودليل الإرادة أن تقول: الله صانع للعالم بالاختيار، وكل من كان كذلك تجب له الإرادة فالله تجب له الإرادة. أضف إلى ذلك أنّ الفعل الصادر منه تعالى مختص بضروب من الجواز لا يتميز بعضها من بعض إلا بمرجح، ولا يكفي العلم في الترجيح، لأنه يتعلق بالمعلوم تعلق انكشاف، على ما هو عليه، دون أن يؤثر فيه أو يغيره. كما لا تكفي القدرة في الترجيح، لأن نسبتها إلى الضدين المتقابلين واحدة، إذاً لابد من صفة ثابتة للذات تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وهذه الصفة هي الإرادة، فالعلم كاشف، والإرادة مخصصة على وفق العلم، والقدرة تبرز ما خصصته الإرادة. كما أنه قد جرى اتفاق على إطلاق القول: بأنه تعالى مريد، وشاع ذلك في كلامه سبحانه وكلام أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. ولا يفهم من قولنا: مريد - بحسب اللغة - إلا ذات ثبتت لها الإرادة، إذ لا يتعقل مريد بلا إرادة، كما لا يتعقل عليم بلا علم، وإن نازع في ذلك المعتزلة.
وغايرت أمراً: أي باينت الإرادة أمراً بمعنى أنها ليست عينه، ولا مستلزمة له، فقد يريد ويأمر (كإيمان من علم الله منهم الإيمان، فإنه تعالى أراده منهم وأمرهم به) وقد لا يريد ولا يأمر (كالكفر من هؤلاء، فإنه تعالى لم يرده منهم ولم يأمرهم به) وقد يريد ولا يأمر (كالكفر الواقع ممن علم الله تعالى منهم عدم الإيمان، وكالمعاصي ممن علم الله تعالى وقوعهم فيها، فإنه أراد ذلك ولم يأمر به). وقد يأمر ولا يريد (كإيمان من علم الله تعالى كفرهم، وإنما أمرهم بالإيمان مع كونه لم يرده منهم سبحانه ليظهر في عالم الحكمة ما علمه الله تعالى أزلاً فيعاقبون عليه).
وعلماً: أي وغايرت الإرادة علماً، بمعنى أنها ليست عينه ولا مستلزمة له، لتعلق العلم بالواجب والجائز والمستحيل، وعدم تعلق الإرادة إلا بالجائز فقط.
- والرضا كما ثبت: أي وغايرت الإرادة رضاه تعالى، وهي قبول الشيء والإثابة عليه. والغرض بذلك الرد على من فسر الإرادة بالرضا، فإن الإرادة قد تتعلق بما لا يرضى به الله تعالى (كالكفر الواقع من الكفار) فإنه تعالى أراده، ولا يرضى به، وهذا التغاير واقع لثبوته عقلاً. وقد قال المحققون من أهل السنة: الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان، إرادة قَدَرِيَّة، كَوْنِيِّة، خَلْقِيّة، وهي المشيئة الشاملة لجميع المكونات، وإرادة دينية، أمرية، شرعية، وهي المتضمنة للمحبة والرضا.
ـــــــــ
28- وَعِلْمُهُ ولا يُقالُ مُكْتَسَبْ *** فاتْبَعْ سَبِيِلْ الحقِّ واطْرَحِ الرِّيْبْ
وعلمه: أي وواجب له علمه، وهو صفة أزلية متعلقة بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات تعلق انكشاف على وجه الإحاطة على ما هي به من غير سبق خفاء. وتعلق العلم تعلق تنجيزي قديم، فيعلم الله سبحانه وتعالى الأشياء أزلاً على ما هي عليه وكونها وجدت في الماضي أو موجودة في الحال، أو توجد في المستقبل أطوار في المعلومات لا توجب تغييراً في تعلق العلم، فالمتغيّر إنما هو صفة المعلوم، لا تعلق العلم، وليس له تعلق صلوحي قديم، ولا تنجيزي حادث، وإلا لزم الجهل، لأن الصالح لأن يعلمِ ليس بعالم والتنجيزي الحادث يستلزم سبق الجهل، هذا ما عليه السنومي ومن تبعه وهو الصحيح، فيعلم الله سبحانه الأشياء أزلاً إجمالاً وتفصيلاً، ويعلم الكليات والجزئيات ويعلم ما لا نهاية له ككمالاته..
- ودليل وجوب العلم له تعالى أن تقول: الله فاعل فعلاً متقناً محكماً بالقصد والاختيار وكل من كان كذلك يجب له العلم، فالله يجب له العلم. فإذا قيل: إن هذا الدليل إنما يفيد علمه بالجائزات فقط، فما الدليل على علمه بالواجبات والمستحيلات؟ أجيب بأن دليل ذلك هو دليل عدم افتقاره لمخصص، لأنه لو لم يعلم بهما لكان محتاجاً لمن يكمله، فيلزم أن يكون حادثاً، فيفتقر للمخصص، وقد تقدم دليل عدم الافتقار للمخصص أو تقول: أن الموجودات منقسمة إلى قديم وحادث، فأما القديم فذاته وصفاته. ومن علم غيره فهو بذاته وصفاته أعلم.
- ولا يقال مكتسب: أي لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يطلق أو يعتقد أن علمه سبحانه لاستحالته، لأن الكسبي - عرفاً - هو العلم الحاصل عن النظر والاستدلال، فإذا أقمت دليلاً على حدوث العالم بأن قلت: العالم متغير وكل متغير حادث ينتج العالم حادث فالعلم - هنا بحدوث العالم حاصل عن نظر واستدلال، فهو كسبي وقيل: الكسبي هو ما تعلقت به القدرة الحادثة، فيشمل العلم الحاصل بالإبصار أو بالشم - مثلاً - بخلافه على التعريف الأول، وعلى كل لا يقال لعلم الله كسبي، لأنه يلزم منه قيام الحوادث بذاته تعالى، ويلزم أيضاً سبق الجهل في حقه تعالى، وهو محال. وما ورد مما يوهم اكتساب علمه تعالى فمؤول كقوله جل جلاله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً}
فالمراد - والله أعلم: ثم بعثناهم ليظهر لهم متعلّق علمنا فيكون لنَعلم بمعنى لنُعلم، فاللام للعاقبة.
- فاتبع سبيل الحق: أي إذا علمت وجوب القدرة والإرادة والعلم له تعالى فاتبع طريق الحق واسلك سبيل أهله، وهم أهل السنة حيث اعتقدوا وجوب صفات المعاني له تعالى.
- واطرح الريب: أي ألق عنك الشبه، والشبه: هي التي لا يعلم فسادها ولا صحتها. وقصد المؤلف الرد على المعتزلة النافين لصفات المعاني حيث قالوا: قادر بذاته ومريد بذاته، وهو هذيان، لأنه لا يعقل قادر بلا قدرة ولا مريد بلا إرادة، وهكذا في باقي الصفات.
ــــــــ
الحياةوالسمع والبصر واكلام
29- حياتُهُ كَذا الْكلامُ الْسَمْعُ *** ثمَّ البَصَرْ، بِذي أَتانا السَمْعُ
حياته: أي وتجب له الحياة، وقد عرف الشيخ السنوسي الحياة بتعريف يشمل الحياة القديمة والحادثة حيث قال: هي صفة تصحح لمن قامت به الإدراك، أي تصحح لمن قامت به أن يتصف بصفات الإدراك. وبعضهم عرف الحياة القديمة فقال: هي صفة أزلية تقتضي صحة الاتصاف بالعلم وبغيره من الصفات الواجبة، وأما في حقنا فقد ينتفي العلم مع وجود الحياة، كما في المجنون، وحياة الله سبحانه لذاته، فهي ليست بروح، وحياتنا بسبب روح. ودليل وجوبها أن تقول: الله متصف بالقدرة والإرادة والعلم، وكل من كان كذلك تجب له الحياة، فالله تجب له الحياة.
كذا الكلام: وتجب لله تعالى صفة الكلام، ودليل وجوبها، إما نقلي وحده، أو مع العقلي على وجه الترتيب، فالمعول عليه فيه الدليل السمعي كما سيذكره بقوله: بذي آتانا السمع. وقد اختلف أهل الملل والمذاهب في معنى كلامه تعالى، فقال أهل السنة هو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، ليست بحرف ولا صوت، منزهة عن التقدم والتأخر والإعراب والبناء، ومنزهة عن الكون النفسي (بأن لا يدبر في نفسه الكلام مع القدرة عليه) وعن الآفة الباطنية (بأن لا يقدر على ذلك) كما في حال الخرس والطفولية، فهما مانعان من الكلام الظاهري، والآفة الباطنية تمنع من الكلام النفسي، والله منزع عنها.
وقال المعتزلة: كلامه هو الحروف والأصوات الحادثة وهي غير قائمة بذاته "فمعنى كونه متكلماً عندهم: أنه خالق للكلام في بعض الأجسام، لزعمهم أن الكلام لا يكون إلا بحروف وأصوات، وهو مردود بأن الكلام النفسي ثابت لغة، كما في قوله تعالى: {يَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}
وقول عمر رضي الله عنه: إني زورت في نفسي مقالة، وقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وكلامه تعالى صفة واحدة، لا تعدد فيها، لكن لها أقسام اعتبارية، فمن حيث تعلقه بطلب فعل الصلاة مثلاً - أمر، ومن حيث تعلقه بطلب ترك الزنا - مثلاً - نهى، ومن حيث تعلقه بأن فرعون فعل كذا (خبر)، ومن حيث تعلقه بأن الطائع له الجنة (وعد)، ومن حيث تعلقه بأن العاصي يدخل النار (وعيد)، إلى غير ذلك من الأقسام.
وتعلقه بالنسبة لغير الأمر والنهي تنجيزي قديم، وأما بالنسبة لهما - فإن لم يشترط فيهما وجود المأمور والمنهي - فكذلك، اكتفاء بوجود المأمور والمنهي في علم الله تعالى وتقديره. وإن اشترط فيهما ذلك كان التعلق فيهما صلوحياً قبل وجود المأمور والمنهي، وتنجيزياً حادثاً بعد وجودهما.
واعلم أن كلام الله تعالى يطلق على الكلام النفسي القديم بمعنى: أنه صفة قائمة بذاته تعالى، كما يطلق على الكلام اللفظي بمعنى: أنه خلقه، وليس لأحد في أصل تركيبه كسب، وعلى هذا المعنى يحمل قول السيدة عائشة: ما بين دفتي المصحف كلام الله تعالى. وكل من أنكر أن ما بين دفتي المصحف كلام الله فقد كفر، إلا إذا لم يرد به الصفة القائمة بذاته تعالى.
- ومع كون اللفظ الذي نقرأه حادثاً لا يجوز أن يقال: القرآن حادث، إلا في مقام التعليم، لأنه يطلق - أيضاً - على الصفة القائمة بذاته، فربما يتوهم من إطلاق أن "القرآن حادث" أن الصفة القائمة بذاته تعالى حادثة ولذلك ضرب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وحبس على أن يقول ذلك فلم يرض.
قال السنوسي وغيره من المتقدمين: إن الألفاظ التي نقرأها تدل على الكلام القديم، والكلام النفسي يدل - أزلاً وأبداً على الواجبات والجائزاتوالمستحيلات، ولكون الألفاظ المقروءة دالة على الكلام النفسي ولكون الدال على شيء دال على ما دل عليه ذلك الشيء، كانت الألفاظ دالة من هذا الوجه على الواجبات والجائزات والمستحيلات. وعليه يكون بعض مدلول الألفاظ قديماً، وبعضه حادثاً، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى}
والحاصل أن الكلام اللفظي يدل على الكلام النفسي دلالة عقلية التزامية بحسب العرف، فإن من أضيف له كلام لفظي دل - عرفاً - على أن له كلاماً نفسياً، وقد أضيف له تعالى كلام لفظي كالقرآن - فإنه كلام الله قطعاً، بمعنى أنه خلقه في اللوح المحفوظ - فدل التزاماً على أن له تعالى كلاماً نفسياً وهذا هو المراد بقولهم "القرآن حادث، ومدلوله قديم" فأرادوا بمدلوله الكلام النفسي. ولو كشف عنا الحجاب وفهمنا من الكلام القديم طلب إقامة الصلاة - مثلاً - نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}
ومن نسب القرآن لغير الله تعالى فهو كافر، قال الطحاوي: من سمعها - أي آيات القرآن - فزعم أنها كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وأوعدهبسقر حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} فلما أوعده الله تعالى بسقر على قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} "علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر".
وقد دلل الإمام الغزالي على وجوب صفة الكلام له تعالى بقوله: من قال: إني رسول الجبل إليكم، فلا يصغى إليه، لاستحالة الكلام والرسالة من الجبل، كذلك من اعتقد استحالة الكلام في حقه تعالى استحال منه أن يصدق الرسول إذ المكذب بالكلام لابد وأن يكذب بتبليغ الكلام، فالرسالة عبارة عن تبليغ الكلام، والرسول عبارة عن المبلغ. كذلك الكلام للحي إما كمال أو نقص، ولا يقال هو نقص، فيثبت بالضرورة أنه كمال. وأن كلاً منهما غير الانكشاف بالعلم، ولكلٍ حقيقة يفوض علمها لله تعالى. وأما لسمع الحادث فهو قوة تدرك بها الأصوات على وجه العادة، وقد يدرك بها غير الأصوات فقد سمع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام كلام الله تعالى القديم وهو ليس بحرف ولا بصوت.
- قال السعد يتعلق السمع بالمسموعات. فإما أن مراده المسموعات في حقه تعالى وهي الموجودات "الأصوات وغيرها" فيوافق ما تقدم، أو أن مراده المسموعات في حقنا وهي الأصوات فقط، فيكون مخالفاً للسنوسي ومن تبعه.
- ثم البصر: وكذا البصر فهو مثل ما ذكر في وجوب اتصافه تعالى به، وهو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالموجودات، الذوات وغيرها، وهي طريقة السنوسي ومن تبعه، وقال السعد تتعلق بالمبصرات، فإما مراده المبصَرات في حقه تعالى فيشمل الذوات وغيرها أو المبصَرات في حقنا فيشمل الذوات والألوان فقط، "هذا ما يحتمله كلام السعد" فيبصر سبحانه جميع الموجودات حتى الأصوات، ولو خفية، بمعنى أن ذلك انكشف لله ببصره، وليس الأمر على ما نعهده من أن البصر الحادث يفيد بالمشاهدة وضوحاً فوق العلم بل جميع صفاته تامة كاملة، فيستحيل عليها الخفاء والزيادة والنقص إلى غير ذلك.
- بذي أتانا السمع: أي بهذه الصفات الثلاثة التي هي الكلام والسمع والبصر أتانا الدليل السمعي، والمراد أنه ورد الدليل بمشتقاتها، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} أي أزال عنه الحجاب وأسمعه الكلام القديم، ثم أعاد الحجاب، وليس المراد أنه تعالى يبتدئ كلاماً ثم يسكت، لأنه لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً خلافاً للمعتزلة في قولهم بأن المعنى، أنه تعالى خلق الكلام في شجرة وأسمعه موسى، ويرد كلامهم أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وأكثر ما اشتهر في المناجاة غير ما سبق فيه، كذب واختلاق. وللسمع وللبصر تعلقات ثلاثة:
أولاً - صلوحي قديم، وهو صلاحيتهما في الأزل لاكتشاف ذوات الكائنات وصفاتها بهما فيما لا يزال.
ثانياً - تنجيزي قديم، وهو انكشاف الذات العلية وصفاتها بهما انكشافاً يغاير انكشاف العلم، إذ لكل صفة حقيقة تخالف حقيقة الأخرى، غير أنهما لا يتعلقان بالأمور العدمية (كالسلوب) والأمور الثبوتية (كالأحوال).
ثالثاً - تنجيزي حادث، وهو انكشاف الممكنات بعد وجودها بهما.
وقد أتى الدليل على صفتي السمع والبصر في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
وعن أبي موسى الأشعري قال: "رَفعَ النَّاسُ أصواتَهم بالدعاءِ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. أيها الْنْاسُ ارْبَعوا على أنفسِكمْ، فإنكمْ لا تَدعونَ أصمَّ، ولا غائباً، إنَّ الذي تَدعونَ سميعٌ قريبٌ". وارْبَعوا على أنفسكم: أشفقوا عليها.
- وقد أراد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام تقرير هاتين الصفتين حين قال لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}. ولو كان لا يعتقد أن عدم السمع والبصر نقص لخاف أن ينقلب الدليل عليه في معبوده، فيقال له: وأنت تعبد ما لا يسمع ولا يبصر. أضف إلى ذلك أن أهل اللغة لا يفهمون من "سميع، وبصير" إلا ذاتاً قد ثبت لها السمع والبصر.
ــــ
31- حَيٌ عَليمٌ قادرٌ مُريدُ *** سَمِعٌ بَصيرٌ ما يَشَا يُريدُ
حي: هذا شروع فيما هو كالنتيجة لما قبله، وهو الصفات المعنوية وهي سبع: وقيل لها: المعنوية نسبة للسبع المعاني، لأن الاتصاف بها كالفرع للاتصاف بالمعاني، باعتبار التعقل، لا باعتبار التأخر في الزمان. وإن اتصاف محل من المحالِ بكونه عالماً أو قادراً - مثلاً - لا يصح إلا إذا قام به العلم أو القدرة. وإن عد هذه السبع في الصفات هو على سبيل الحقيقة، إن قلنا بصفات الأحوال، وهي صفات ثبوتية، ليست بموجودة ولا بمعدومة، قائمة بموجود، فهذه الصفات ثابتة قائمة بذاته تعالى. وأما إن قلنا بنفي الأحوال، وأنه واسطة بين الوجود والعدم - كما عليه الأشعري وهو المعتمد - فالثابت من الصفات التي تقوم بالذات إنما هو السبع الأوَلُ، أي صفات المعاني. أما هذه فهي عبارة عن قيام تلك بالذات، لا أنها لها ثبوتاً بالخارج عن الذهن بحيث يقال فيها: إنها قائمة بالذات، وهذا لا ينافي أنها أمر اعتباري ثابت في نفسه بقطع النظر عن اعتبار المعتبر فالأحوال صفات قارة في الذات بخلاف الاعتبار الثابت في نفس الأمر فإنه غير قار فيها. وحيث وجبت له الحياة فهو سبحانه حي كما علم من الدين ضرورة، وثبت من الكتاب والسنة بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله. قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} والقيوم: القائم بتدبير خلقه، والسَّنةُ: النعاس: وحقيقة الحي هو الذي تكون حياته لذاته، وليس ذلك لأحد من الخلق. والكون حياً عبارة عن قيام الحياة بالذات، وهو أمر اعتباري.
لذلك تُعَرَّفُ الصفات المعنوية بأنها صفات ثبوتية، أي ثابتة للذات، وهي كل صفة ثابتة لا توصف بالوجود - كالمعاني - ولا بالعدم - كالسلبيات - ملازمة للسبع الأوَلُ.
والفرق بين المعاني والمعنوية أن المعاني صفات وجودية والمعنوية ثبوتية بمعنى أنها عبارة عن قيام المعاني بالذات، وهذا هو المعتمد. وأن المعاني ملزومة للمعنوية عقلاً والمعنوية لازمة للمعاني، بمعنى أنه يلزم من كونه قادراً أنه موصوف بالقدرة، كما يلزم من اتصافه بالقدرة كونه قادراً، وأن الصفات المعنوية واجبة له تعالى إجماعاً، على مذهب أهل السنة والمعتزلة.
- تنبيه: التحقيق أن من ينفي المعنوية يكفر، إن أثبت ضدها، لأن الحق نفي صفات الأحوال، أما النافي لأن يكون له تعالى صفة قديمة يقال لها: الكون عالماً، وهو مثبت لانكشاف الأشياء له تعالى أزلاً بذاته فلا ضرر في ذلك. وأما صفات المعاني فنفي زيادتها على الذات مع إثبات أحكامها لها فموجب للفسق فقط، وأما نفيها مع إثبات أضدادها فهو كفر.
- عليم: أي وحيث وجب له العلم فهو عليم بمعنى عالم، وهو الذي علمه شامل لكل ما من شأنه أن يعلم. وصيغة المبالغة "عليم" باعتبار كثرة المعلوم، وإن كانت صفة العلم واحدة. قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} وقال تعالى أيضاً: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقال تعالى حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} وقال حكاية عما وقع بين شعيب وقومه: "وَسِعَ ربُّنا كلَّ شيءٍ عِلْماً". وقال: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. وقال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
وثمة آيات كثيرة مبثوثة في كتاب الله دالة على سعة علمه تبارك وتعالى وإحاطته بكل شيء قل أو كثر، دق أو عظم.
- قادر: أي وحيث وجبت له القدرة فهو قادر. والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك، فهو المتمكن من الفعل والترك، فيكون منه كل منهما بحسب ما خصصته الإرادة على وفق ما انكشف بالعلم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ...} إلى أن قال: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} اللغوب: التعب. {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} والمرج: الإرسال، والفرات: شديد العذوبة، والأجاج شديد الملوحة، والبرزخ: الحاجز، والحجر المحجور: الستر المستور الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، وخلق من الماء: أي من النطفة. وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ، وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. والودق: المطر، وسنا البرق: لمعانه.
- مُريد: أي وحيث وجبت له الإرادة فهو مريد. والمريد هو الذي تتوجه إرادته إلى المعلوم فتخصصه بالوجود بدلاً عن العدم - مثلاً - قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وقال أيضاً: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}.
وأمرنا مترفيها: أي أمرنا رؤساءها بالطاعة - على لسان - الرسل ففسقوا فيها.
- سمِع: أي سميع "حذفت الياء للضرورة" وحيث وجب له السمع فهو سميع، والسميع هو الذي يسمع كل موجود. قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}. ومعنى تجادلك: تراجعك وقال أيضاً: لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}.
- بصير: وحيث وجب له البصر فهو بصير، وهو الذي يبصر الأشياء، فهو سبحانه يحيط بالمسموعات والمبصرات من غير أن يشغله شأن عن شأن قال: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}.
- ما يشا يريد: أشار - هنا - إلى اختيار مذهب الجمهور من اتحاد المشيئة والإرادة وأنه يطلق إحداهما على الأخرى، والمعنى: أن كل ما يشاؤه الله تعالى فهو - من حيث إنه مشاء له - مراد له، وكلما يريده فهو - من حيث إنه مراد له - مشاء له، خلافاً للكّرامية الزاعمين بأن المشيئة صفة واحدة أزلية تتناول ما يشاؤه الله بها، والإرادة حادثة متعددة بتعدد المرادات..
ومراداته سبحانه هي شؤونه بخلقه، وشؤونه يبديها ولا يبتديها، أي هي أحوال يظهرها للناس ولا يبديها علماً، لأنه تعالى يعلم الأشياء أزلاً، خلافاً لمن قال "الأمرُ أنفٌ" أي يستأنف الله الأشياء علماً وهم قومٌ كفار لأنهم أنكروا القدر.
ــــ
32- مُتَكَلِّمٌ ثُمَّ صِفَاتُ الذَاتِ *** لَيْسَتْ بغَيْرِ أو بِعَيْنْ الذَّاتِ
متكلم: وحيث وجب له الكلام فهو متكلم، ولا خلاف لأرباب المذاهب والملل في أنه تعالى متكلم، وإنما الخلاف في معنى كلامه وقد تقدم معناه، وقد اختلفوا في قدمه وقد تقدم بيانه أيضاً وسيأتي في قوله: ونزه القرآن أي كلامه * عن الحدوث واحذر انتقامه.
- ثم صفات الذات: أورد النافون لصفات الذات شبهة هي: أن الصفات الوجودية إما أن تكون "حادثة" فيلزم قيام الحوادث بذاته تعالى، ويلزم خلوه تعالى في الأزل عنها. وإما أن تكون "قديمة" فيلزم تعدد القدماء وهو كفر بإجماع المسلمين، والغرض هنا بيان حكم صفات الذات، وهو أنها ليست بعين الذات، ولا بغيرها، ولم تكن عينها لأن حقيقة الذات غير حقيقة الصفات، وإلا لزم اتحاد الصفات والموصوف، وهو لا يعقل، ولم تكن غيرها لأنها قائمة بالذات، أي ليست غيراً منفكاً عن الذات، وإن كانت غيراً في المفهوم، وعلى هذا يظهر بطلان القول بتعدد القدماء، وإنما يلزم التعدد وقيام الحوادث بذاته تعالى فيما لو كانت كل صفة قائمة بنفسها. ولكون الصفات ليست غيراً بالمعنى المتقدم وقع التسامح بإضافة ما للذات إليها نحو: "كل شيء تواضع لقدرته" والمراد تواضع كل شيء لذاته لأجل قدرته، وإلا فعبادة مجرد الصفات كفر، وعبادة مجرد الذات فسق، والقول المستقيم عبادة الذات المتصفة بالصفات.
والصفات السلبية لا تدخل في الخلاف السابق لأنها غير قائمة بالذات فهي أمور عدمية وكذلك صفات الأفعال - كالإحياء والإماتة - فإنها غير قائمة بها أيضاً، لأنها منكفة، فهي تعلقات القدرة التنجيزيةالحادثة، كما سبق. والصفة النفسية - التي هي الوجود - مثل ما مر، من حيث عدم الدخول في الخلاف. إذ أن الوجود عين الموجود، فهو ليس زائداً على الذات.
- ليست بغير: أي ليست بغير الذات، والمراد ليست غيراً منفكاً فلا ينافي أنها غير ملازم، أي قائم بالذات.
- أو بعين الذات: أي ليست عين الذات، لأن حقائقها تخالف حقيقة الذات، فهي صفات مغايرة للذات، مفهوماً، لكنها قائمة بالذات، إذ محال أن يقوم الوصف بنفسه، وهي واجبة لذاتها، مثل وجوب الذات كما هو الحق، وليست ممكنة في ذاتها واجبة لغيرها بسبب اقتضاء الذات لها.
تعليقات