تحقيق الآمال فيما ينفع الميت من الأعمال
ا
لكتاب : تحقيق الآمال فيما ينفع الميت من الأعمال المؤلف :السيد/ محمد بن السيد علوي المالكي الحسني
{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}
قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ للإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}[النجم:39].
هذه الآية الكريمة من النصوص المهمة التي يتمسك بها كثير ممن يجرون وراء ظواهر الألفاظ وعمومات النصوص المطلقة دون مراعاة للأصول والقرائن الأخرى التي تفيد تخصيصاً أو تقييداً للنص، والتي يجب أن لا تفهم النصوص العلمية إلا بها لتدور جميعاً في فلك واحد، وتأتي متناسبة مترابطة في نسق واحد يليق بصاحب الشريعة المحفوظ من التناقض والتعارض، إذ لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى.
فظاهر هذه الآية يفيد نفي انتفاع الميت بأي شيء بعد موته، لأنه ما أثبت له إلا ما سعى فيه، ومحل سعيه هو الدنيا، لكن هناك نصوصاً أخرى تثبت انتفاعه بغير سعيه كما سيأتي في هذا البحث، ولذلك فإن المحققين من علماء السنة وخصوصاً المنصفين من أئمة السلفية مثل الشيخ ابن تيمية وابن القيم الذين فهموا الآية هذا الفهم الصحيح أثبتوا انتفاع الميت بعمله وعمل غيره، وبينوا معنى الآية والتوفيق بينها وبين النصوص الأخرى الواردة في هذا الموضوع.
قال العلامة الشيخ فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي في شرحه على كنز الدقائق في باب الحج عن الغير: وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ للإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فقد قال ابن عباس: إنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ...} الآية [الطور:21]، وقيل: هي خاصة بقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام لأنه وقع حكاية عما في صحفهما لقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}[النجم:36،37]، وقيل: أريد بالإنسان الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى أخوه، وقيل: ليس له من طريق العدل، وله من طريق الفضل، وقيل: اللام في (الإنسان) بمعنى (على)، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}[الإسراء:7]، أي عليها، وكقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ}، أي عليهم، وقيل: ليس له إلا سعيه، لكن سعيه قد يكون بمباشرة أسبابه، بتكثير الإخوان، وتحصيل الإيمان، حتى صار ممن تنفعه شفاعة الشافعين، وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) فلا يدل على انقطاع عمل غيره، والكلام فيه وليس فيه شيء مما يستبعد عقلاً لأنه ليس فيه إلا جعل ما له من الأجر لغيره، والله تعالى هو الموصل إليه، وهو قادر عليه، ولا يختص ذلك بعمل دون عمل. ا ه.
تحليل نفيس لشارح العقيدة الطحاوية
ذكر الشيخ ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية مسألة انتفاع الميت بعمل غيره مما لم يتسبب فيه، ورجح القول به، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس عليه، ثم قال في الجواب عن الآية التي يتمسك بظاهرها المانعون:
والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ للإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}[النجم:39]: قد أجاب العلماء بأجوبة، أصحها جوابان:
أحدهما: أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه، ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلٍ من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم.
يوضحه: أن الله تعالى جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك.
الثاني: وهو أقوى منه أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه. وقوله سبحانه وتعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وَأَنْ لَيْسَ للإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}[النجم:38،39]، آيتان محكمتان تقتضيان عدل الرب تعالى، فالأولى تقتضي أنه لا يعاقب أحداً بجرم غيره، ولا يؤاخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا، والثانية تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى. ا ه.
______________________________ __________
((إذا مات ابن آدم انقطع عمله))
ومن النصوص المهمة المتصلة بالآية الكريمة الحديث الصحيح المشهور: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
وقد شرح هذا الحديث سيدي الوالد الإمام علوي بن عباس المالكي الحسني رحمه الله، فقال: قوله: ((إذا مات ابن آدم ...)) اعلم أن انقطاع ذات العمل بالموت أمر ظاهر، إذ الميت لا يعمل ولا يكلف بعد الموت، وإنما المقصود أن بعض الأعمال تستثمر آثارها حتى بعد الموت فلا ينقطع أجرها بتكرر ذلك. ولذا قال: ((إلا من ثلاث)) أي إلا من خصال ثلاث: ((صدقة جارية)) أي غير منقطعة كحفر بئر، ووقف مصحف، وبناء مسجد ورباط، وقوله: ((أو علم ينتفع به)) يعني به العلم الشرعي: الذي ينتفع به، ويترتب عليه الفوز بالنعيم المقيم والنجاة من العذاب الأبدي. ويدخل في ذلك: تأليف الكتب ووقفها. لأن المراد مطلق الانتفاع: بالمباشرة والتسبب. وقوله: ((أو ولد صالح)) أي مسلم ((يدعو له)): لأنه من كسبه. وقد تفضل الله تعالى بكتابته مثل ثواب سائر الحسنات التي يعملها الأولاد دون آثام السيئات.
______________________________ __________
وبما تقرر، علم أنه لا حصر في هذه الخصال الثلاث، لأن مفهوم العدد غير حجة، أو لأنه عليه الصلاة والسلام اطلع على الثلاث ثم أطلعه الله على الزائد فضلاً منه وإحساناً، لما أخرج ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، ومسجداً بناه، وبيتاً لابن السبيل بناه، ونهراً أجراه، وصدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته)).
فهذا الحديث احتوى على سبع خصال تضم إلى الثلاث الأول: تبلغ عشراً. وقد زاد السيوطي عليها واحدة أيضاً. وقد نظم ذلك بقوله:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ...عليه ـ من خصال ـ غيرُ عشر
علومٌ بثها، ودعاءُ نجل ...وغرسُ النخل، والصدقاتُ تجري
وراثةُ مصحف، ورباطُ ثغر ...وحفرُ البئر، أو إجراءُ نهر
وبيتُ للغريب بناه يأوي ... إليه، أو بناءُ محل ذكر
وتعليمٌ لقرآن كريم ... فخذها من أحاديث بحصر
تخريج ما ورد في هذه الأبيات:
أما قوله: (علوم بثها، ودعاء نجل، والصدقات تجري) فهذه جاءت مجموعة في الحديث الصحيح المشهور: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
وأما قوله: (غرس النخل، وحفر بئر) فقد جاء ذكرهما في حديث أنس مرفوعاً: ((سبع يجري أجرهما للعبد بعد موته وهو في قبره ـ وذكر منها حفر البئر أو غرس النخل)) رواه أبو نعيم في الحلية.
وأما قوله: (محل ذكر) فهو المسجد، وقد تقدم ذكره في حديث ((إن مما يلحق المؤمن ..)) الحديث.
______________________________ __________
قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية:
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله)) فاستدلال ساقط، فإنه لم يقل انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل، لا ثواب عمله هو، وهذا كالدّين يوفيه الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفّى به الدَّين. ا ه..
تعليقات