واجب ايماننا بالقدر


54- وَوَاجِبٌ إيمانُنَا بالقَدَرِ *** وَبالقَضَا كَمَا أَتَى في الخَبَرِ

وواجب إيمانناً: غرض المصنف - هنا الرد على القدرية التي تنفي القدر وتزعم أنه تعالى لم يقدر الأمور أزلاً، وتقول: الأمر يستأنفه الله علماً حال وقوعه، ولقبوا بالقدرية لخوضهم في القدر حيث بالغوا في نفيه. وهؤلاء انقرضوا قبل الإمام الشافعي رضي الله عنه أي قبل انقضاء القرن الهجري الثاني. وثمة فرقة أخرى أطلقوا عليها اسم القدرية وهي إحدى فرق المعتزلة، وهم القائلون بأن العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية، والمثبتون - مع أهل السنة - أن الله تعالى عالم بالعبد أزلاً قبل وقوعها منه، وقد مضى الرد على هذه الطائفة في قوله: "فخالق لعبده وما عمل" فهما قدريتان، الأولى: وهي تنكر سبق علمه تعالى بالأشياء قبل وقوعها وتخوض في القدر حيث بالغت في نفيه. والثانية: تنسب أفعال العباد إلى قدرهم، ومذهب الثانية أخف من الأولى - الذي هو كفر - وإن كان باطلاً مثله.
وثمة مسألتان، الأولى: أن الإيمان بالقضاء والقدر يستدعي الرضا بهما، فيجب الرضا بهما، واستشكل بأنه يلزم على ذلك الرضا بالكفر والمعاصي لأن الله قضى بهما وقدرهما، مع أن الرضا بالكفر كفر، وبالمعاصي معصية! فقال السعد: إن الكفر والمعاصي مقضي ومقدر، لا قضاء وقدر، والواجب الإيمان به إنما هو القضاء والقدر وليس المقضي والمقدر، فالمؤمن بهما لا يعترض على الله في قضائه وقدره، ويعتقد أنه لحكمة وإن كنا لا نعلمها، وإنما يعترض على الكافر والفاسق في اختيارهما واكتسابهما. والمسألة الثانية: أنه وإن وجب الإيمان بالقدر لا يجوز الاحتجاج به قبل الوقوع توصلاً إليه أو بعد الوقوع تخلصاً من الحد أو نحوه، بأن يقول: قدر الله علي الزنا وغرضه التوصل إلى الوقوع فيه، أو قال بعد وقوعه في الزنا: قدر الله علي ذلك، فأما الاحتجاج به
بعد الوقوع لدفع اللوم فقط فلا بأس به ففي الحديث الصحيح: "أنَّ رُوحَ آدمَ التَقتْ مع روحِ موسى عليهما الصلاةُ والسلامُ فقالَ موسى لآدمَ أنتَ أبو الْبشَرِ الذي كنتَ سبباً لإخراجِ أولادِك من الجنّةِ بأكلكَ من الشجرةِ، فقالَ آدمُ: يا موسى فأنتَ الذي اصطفاكَ الله بكلامهِ وخطَّ لكَ التوراة بيدهِ، تلومنّي على أمرٍ قدْ قدَّرهُ اللهُ عليَّ قبْلَ أنْ يخلُقني بأربعين ألفَ سنةٍ. قال النبي صلى الله عليه وسلم فحجَّ آدمُ مُوسى. يريدُ أنّهُ غلبهُ بالحُجَّة".
- بالقدر وبالقضاء: اختلف الأشاعرة والماتريدية في كل من القدر والقضاء فقال الأشاعرة: القدر إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين أراده تعالى فهو عبارة عن الإيجاد عندهم، وهو من صفات الأفعال. وقال الماتريدية: "القدر هو تحديد الله أزلاً كل مخلوق بحده الذي يوجد عليه من حسن وقبح، ونفع وضر، إلى غير ذلك، فهو علمه تعالى أزلاً بصفات المخلوقات، وهو - عندهم - راجع لصفة العلم وهي من صفات الذات. وأما القضاء - عند الأشاعرة - فقد قالوا: هو إرادة الله الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال، فهو من صفات الذات وعند الماتريدية: هو إيجاد الله الأشياء مع زيادة الإحكام والإتقان، فهو راجع لصفات الأفعال. وعلى هذا يكون القدر - عند الأشاعرة - حادث، والقضاء قديم. وعلى العكس عند الماتريدية، وحمل الشارح كلام المصنف على مذهب الماتريدية في القدر والقضاء. لأن القضاء لغة له نحو معان سبعة، أشهرها الحكم، وهو يرجع للفعل، فناسب أن يفسر - اصطلاحاً - بالفعل، وأما القدر فلم يرد أن معناه في اللغة الفعل، فناسب ألا يفسر في الاصطلاح بالفعل بل بالعلم.
وبعد هذا كله فالقضاء والقدر راجعان لما تقدم من العلم والإرادة وتعلق القدرة، وأنه يجب على المكلف أن يؤمن بأن الله سبحانه علم أزلاً بجميع أفعال العباد، وخصص بإرادته - سبحانه - أزلاً هذه الأفعال على وفق العلم وأنه أوجدها - حين أوجدها فيما لا يزال - على القدر المخصوص والوجه المعين الذي سبق العلم به وخصصته الإرادة، بل إن ذلك مما لا يتحقق الإيمان إلا به.
- كما أتى في الخبر: أشار المصنف - هنا إلى أن دليل القضاء والقدر سمعي. ومن جملة ما ورد في السمع ما روي عن سيدنا علي كرم الله وجهه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يُؤِمنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤمنَ بِأرَبعٍ: يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وأنِّي مُحَمَّدٌ رَسولُ الله بعثني بالحقِّ، ويؤِمنُ بالموتِ وبالبعثِ بَعْدَ الموتِ، ويؤِمنُ بالقَدَرِ".
وعن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يُؤِمنُ عَبْدٌ حتَّى يُؤِمْنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، وحتَّى يَعْلَمَ أنَّ ما أَصابَهُ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَه وأّنَّ ما أَخطَأهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ".
وإنما عوّلوا على الدليل السمعي لأنه للعامة أسهل، وإلا فقد علم مما مر أن القضاء والقدر يرجعان إلى الصفات المعول فيها على الدليل العقلي.‏

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الواجب لله 20 صفة

المستحيل على الله

تعلقات القدرة