رؤية الله فى الاخرة
55- وَمِنْهُ أنْ يُنْظَرَ بالأبْصَارِ *** لكِنْ بِلاَ كَيْفٍ ولا انْحِصَارِ
ومنه أن ينظر: أي ومن بعض جزئيات الجائز عقلاً عليه تعالى أن ينظر الله تعالى بالأبصار، بمعنى أن العقل إذا خلي ونفسه لم يحكم بامتناع الرؤية ولا بوجوبها. ولقد ذهب أهل السنة إلى أنه تعالى يجوز أن يرى، والمؤمنون يرونه في الجنة منزهاً عن المقابلة والجهة والمكان. فكما يعلمون أنه سبحانه ليس في جهة يرونه كذلك بلا جهة. فالرؤية جائزة عقلاً دنيا وأخرى، لأنه سبحانه موجود، وكل موجود يصح أن يرى، لكنها لم تقع في الدنيا إلا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهي واجبة شرعاً في الآخرة كما أطبق عليه أهل السنة، للكتاب والسنة والإجماع.
- وقبل الخوض في سرد الأدلة نورد أسئلة تترتب من طبيعة المسألة، ثم
نورد أجوبتها، والأسئلة هي: هل الرؤية مما يجوزه العقل؟ وهل في السمع ما يدل على جوازها؟ وهل في السمع ما يجوز وقوعها في الدنيا؟ أو أن ما ورد فيه - إن دل على الجواز - خاص بالآخرة ؟.
نورد أجوبتها، والأسئلة هي: هل الرؤية مما يجوزه العقل؟ وهل في السمع ما يدل على جوازها؟ وهل في السمع ما يجوز وقوعها في الدنيا؟ أو أن ما ورد فيه - إن دل على الجواز - خاص بالآخرة ؟.
السؤال الأول: هل الرؤية مما يجوزه العقل؟
ذهب المعتزلة إلى عدم تجويز العقل رؤية العباد لربهم، بل إن العقل يحكم بامتناعها. وأجمع الأئمة من أهل السنة على أنها مما يجوزه العقل. واحتج المعتزلة على مقالتهم: بأننا نعلم علم اليقين أن الله تعالى ليس بجسم، ولا في جهة من الجهات، وأنه يستحيل عليه المقابلة والمواجهة وتقليب الحدقة نحوه. والرؤية لا تتحقق إلا إن كان المرئي في الجهة المقابلة لنظر الرائي، لهذا لا يمكن لعبد أن يرى ربه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأجاب أهل السنة: بأننا لا نسلم لكم ما زعمتموه من عدم تحقق الرؤية إلا إن كان المرئي مقابلاً للرائي، بل نحن نقول: إن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في عبده متى شاء من غير لزوم مقابلة المرئي، ولا لزوم كونه في جهة وحيز. ونقول: إن الله تعالى ليس بجسم ولا هو في جهة، وإنه يستحيل عليه المقابلة والمواجهة، ومع ذلك يصح أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر كما ورد في صحيح الأحاديث.
السؤال الثاني: هل في السمع ما يدل على جوازها؟
فقد ذهب المعتزلة إلى نفي الدليل السمعي الصريح في الرؤية، بل قالوا: إن في السمع ما يدل على أنها لا تجوز ولزمهم أن يؤولوا صريح القرآن وصحيح الأحاديث ليوافق ما ذهبوا إليه، كحمل الجبائي قوله تعالى: (ناظرة) في هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على معنى الانتظار، وجعل (إلى) بمعنى النعمة، وكأنه قيل: وجوه يومئذ منتظرة نعمة ربها. وهو كلام عجيب، فيه من الهوى الجامح ما فيه، لأن الإخبار بانتظارهم النعمة والثواب لا يتلاءم والمقام، بل ينافيه أشد المنافاة، إذ أن في الانتظار موتاً أحمر، فهو بالغم والقلق والذم وضيق الصدر أجدر، أضف إلى ذلك أن النظر المتعدي بـ (إلى)، والمسند إلى الوجه مما لم يثبت عند الثقات بمعنى الانتظار. وعمدتهم في هذا المذهب قوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام: "رَبِّ أَرِني أْنظُرُ إلَيْكَ قَالَ: لَنْ تَراني، ولكْن انْظُرْ إلى الجَبَلِ، فإنِ استَقَرَّ مكانَه فَسَوفَ تراني. فَلمَّا تَجَلّى ربُّه للجَبلِ جَعلهُ دّكّا، وخَرّ موسى صَعقاً". قالوا: أجاب الله بـ (لن تراني) فنفى الرؤية ثم علقها على استقرار الجبل وهو يعلم أنه لن يستقر، فكأنه علقها على أمر مستحيل، فتكون رؤيته سبحانه مستحيلة.
- وأهل السنة يقولون إن في السمع كثيراً من الآيات الكريمة، والأحاديث الصحيحة تدل صراحة على جوازها، بل إن الآية التي أحتج بها المعتزلة ودندوا حولها تدل نفسها على جوازها، ومن عدة وجوه، الأول: أن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام قد طلبها، ولاشك أنه أدرى من المعتزلة بما يجوز في حقه تعالى وبما لا يجوز، ولو كان يعمل استحالتها لما استساغ أن يطلبها. والثاني أنه سبحانه علق حصول الرؤية في آخر الآية على أمر جائز في نفسه، وهو استقرار الجبل، بل هو من حيث ذاته أقرب من صيرورته دكاً، وكل أمر يعلق على أمر جائز فهو جائز، وادعاء المعتزلة من أنه سبحانه يعلم أنه لا يستقر لا يخرجه عن كونه جائزاً. وقد قال المعتزلة في الآية حذف مضاف وهو: "أرني آية من آياتك" وهو فاسد، كيف وموسى عليه الصلاة والسلام اختص من الله تعالى بآيات كثيرة؟ واندكاك الجبل أعظم آية من آياته،
فكيف يستقيم نفي الرؤية؟ بل كيف يصح تعلق رؤيتها بالاستقرار؟ وإنما الآية عند اندكاك الجبل وقالوا أيضاً: إنه إنما سألها لأجل قومه. وهو قول باطل أيضاً، لأن تجويز الرؤية باطل، بل هو كفر عند أكثر المعتزلة، فلا يجوز لموسى عليه الصلاة والسلام تأخير الرد عليهم، وتقرير الباطل. ألا ترى أنهم لما قالوا له: "اجْعَل لَنا إلهاً كمَا لهمْ آلهَةٌ". رد عليهم لساعته: "إنَّكْم قومٌ تَجْهَلونَ". ولأن القوم إنما يصدقون نبيهم فيكفيهم إخباره بامتناع الرؤية، هذا وإن لم يصدقوه فلا تفيدهم حكايته عن الله تعالى وإنما أخذتهم الصاعقة بقصدهم التعنت، لا لطلبهم الباطل. والحق أن السائلين القائلين: "لَنْ نُؤِمْنَ لَكَ حتّى نَرَى اللهَ جَهْرةً". لم يكونوا مؤمنين، ولم يكونوا حاضرين عند سؤاله عليه الصلاة والسلام للرؤية. وقد نقل ابن فورك عن الأشعري رحمه الله أنه قال: قال تعالى: {لَنْ تَرَانِي}. ولم يقل: لست بمرئي على ما هو مقتضى المقام لو امتنعت الرؤية. وإنه ليس معنى التجلي للجبل أنه ظهر عليه بعدما كان محجوباً عنه، بل إنه خلق فيه الحياة والرؤية فرآه. واحتج المعتزلة على نفيها بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فقالوا إن الإدراك بالبصر هو الرؤية، والإدراك بالبصر منتف بهذه الآية. فأجابهم أهل السنة: بأن الإدراك بالبصر ليس مجرد الرؤية، بل هو رؤية مخصوصة، وهي التي تكون على وجه الإحاطة بحيث يكون المرئي منحصراً بحدود ونهايات. فالمنفي في الآية أخص من مجرد الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم. وقد قال في المسايرة يدلل على جواز الرؤية عقلاً.. وأما عقلاً فلأنه غير مؤد إلى محال، فوجب ألا يُعدل عن ظاهر النصوص الواردة، إذ العدول عنه عند عدم إمكانه، وذلك أن الرؤية نوع كشف وعلم للمدرك بالمرئي يخلقه الله تعالى عند مقابلة الحاسة له عادة، فجاز أن يخلق هذا القدر من العلم بعينه من غير مقابلة بجهة أو إحاطة بمجموع المرئي. وكما أنا نرى السماء ولا نحيط بها، وكما يرانا الله تعالى من غير مقابلة في جهة باتفاق، بل كما قد يخلق الله تعالى الرؤية من غير مقابلة لحاسة البصر أصلاً نراه سبحانه وتعالى. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابة: "سَوّوا صُفوَفكُمْ فإنّي أراكُم مِنْ وراءِ ظَهْرِي".
فكيف يستقيم نفي الرؤية؟ بل كيف يصح تعلق رؤيتها بالاستقرار؟ وإنما الآية عند اندكاك الجبل وقالوا أيضاً: إنه إنما سألها لأجل قومه. وهو قول باطل أيضاً، لأن تجويز الرؤية باطل، بل هو كفر عند أكثر المعتزلة، فلا يجوز لموسى عليه الصلاة والسلام تأخير الرد عليهم، وتقرير الباطل. ألا ترى أنهم لما قالوا له: "اجْعَل لَنا إلهاً كمَا لهمْ آلهَةٌ". رد عليهم لساعته: "إنَّكْم قومٌ تَجْهَلونَ". ولأن القوم إنما يصدقون نبيهم فيكفيهم إخباره بامتناع الرؤية، هذا وإن لم يصدقوه فلا تفيدهم حكايته عن الله تعالى وإنما أخذتهم الصاعقة بقصدهم التعنت، لا لطلبهم الباطل. والحق أن السائلين القائلين: "لَنْ نُؤِمْنَ لَكَ حتّى نَرَى اللهَ جَهْرةً". لم يكونوا مؤمنين، ولم يكونوا حاضرين عند سؤاله عليه الصلاة والسلام للرؤية. وقد نقل ابن فورك عن الأشعري رحمه الله أنه قال: قال تعالى: {لَنْ تَرَانِي}. ولم يقل: لست بمرئي على ما هو مقتضى المقام لو امتنعت الرؤية. وإنه ليس معنى التجلي للجبل أنه ظهر عليه بعدما كان محجوباً عنه، بل إنه خلق فيه الحياة والرؤية فرآه. واحتج المعتزلة على نفيها بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فقالوا إن الإدراك بالبصر هو الرؤية، والإدراك بالبصر منتف بهذه الآية. فأجابهم أهل السنة: بأن الإدراك بالبصر ليس مجرد الرؤية، بل هو رؤية مخصوصة، وهي التي تكون على وجه الإحاطة بحيث يكون المرئي منحصراً بحدود ونهايات. فالمنفي في الآية أخص من مجرد الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم. وقد قال في المسايرة يدلل على جواز الرؤية عقلاً.. وأما عقلاً فلأنه غير مؤد إلى محال، فوجب ألا يُعدل عن ظاهر النصوص الواردة، إذ العدول عنه عند عدم إمكانه، وذلك أن الرؤية نوع كشف وعلم للمدرك بالمرئي يخلقه الله تعالى عند مقابلة الحاسة له عادة، فجاز أن يخلق هذا القدر من العلم بعينه من غير مقابلة بجهة أو إحاطة بمجموع المرئي. وكما أنا نرى السماء ولا نحيط بها، وكما يرانا الله تعالى من غير مقابلة في جهة باتفاق، بل كما قد يخلق الله تعالى الرؤية من غير مقابلة لحاسة البصر أصلاً نراه سبحانه وتعالى. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابة: "سَوّوا صُفوَفكُمْ فإنّي أراكُم مِنْ وراءِ ظَهْرِي".
السؤال الثالث: هل في السمع ما يدل على جوازها في الدنيا، أو هو - إن وجد - خاص بالآخرة؟ ولا خفاء في أن إثبات وقوع الرؤية لا يمكن إلا بالأدلة السمعية. وقد اتفقت الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوعها، ولكن من أهل السنة من قال: إن الوارد في السمع خاص في الآخرة. وعلى هذا تحمل الآيات التي تنفي جوازها، فقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ }. إن سلمنا أن الإدراك المنفي هو الرؤية فهذا خاص في الدنيا، أما في الآخرة فقد ثبت بدليل آخر أنه يرى، وكذا قوله سبحانه: {لَنْ تَرَانِي}.
أي في الدنيا. وكانت السيدة عائشة ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما يقولان: كانت رؤيا النبي لربه ليلة الإسراء والمعراج رؤية منام، ولم تكن يقظة، ولعلهما قالا ذلك بناء على اجتهاد منهما، وقد روى البخاري وغيره عن مسروق قال: قلت لعائشة يا أماه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث، من حدثكهن فقد كذب، من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً}. ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، وقرأت قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}. ولكن رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين. ولعلها قالت ذلك اجتهاداً منها، على أنها رضي الله عنها لم تكن في بيته صلى الله عليه وسلم حين أسري به، بل لم تكن تميز - إن سمعت - في وقت الحادث، على أن الراجح أنها لم تكن ولدت ورأت الدنيا، لأن المعراج حدث في أول البعثة وعائشة رضي الله عنها لم تكن قد بلغت العاشرة يوم الهجرة على الأرجح. وأما معاوية رضي الله عنه فلم يكن قد أسلم يوم هذا الحادث. وإن بعض الناس قد يوجه قولهما بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} لأن الرؤيا تطلق على رؤيا المنام، وأما الرؤية فتطلق على اليقظة. والصحيح أن الرؤيا كما تطلق على النوم تطلق على اليقظة. قال الشاعر:
فَكَبّرَ للرؤْيْا وهَشَّ فُؤادُه *** وبَشَّرَ قَلْبَاً كانَ جَمّاً بَلابِلُهْ
فإنه يصف راعياً رأى العشب والكلأ فاستبشر به، وطمأن نفسه، وهذا حاصل في اليقظة لا محالة. وقد قال تعالى عن هذه الرؤيا إنها كانت فتنة للناس، يعني ابتلاء لهم واختباراً، ليرى من يثبت على إيمانه ومن يرتد عن دينه لعدم تصديقه ذلك، وقد كان ذلك فعلاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح وأخبر أهل مكة بما كان من مسراه إلى بيت المقدس، وعروجه إلى السماوات وما فوقها، سخروا منه وكذبوه حتى ارتد ضعاف القلوب، وثبت أهل التقوى والمغفرة ومنهم أبو بكر الذي قال حين سمع ما يتندّرون به على النبي: إن كان قد قال ذلك فقد صدق. وليس من المعقول أن يكون حديث الإنسان عن رؤيا رآها في المنام فتنة وبلاء واختباراً، ويصدق به قوم، وينكر آخرون.
وقد ذهب الأكثرون إلى أن في السمع ما يدل على جوازها في الدنيا لمن أراد الله له ذلك. ومن ذلك قصة معراجه صلى الله عليه وسلم. ويقول هذا الفريق إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه وهما في مكانهما الخلقي، لم يحولهما الله تعالى إلى قلبه كما زعم بعض الناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرى ربه كذلك في كل مرة من مرات المراجعة التي كان يسأل فيها تخفيف الصلوات المفروضة. ورؤيته صلى الله عليه وسلم هذه منقولة عن جمهرة الصحابة فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
رأى محمد ربه، قال عكرمة: قلت أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأَيْتُ ربِي عزَّ وَجَلَّ". وروى أيضاً عن ابن عباس. أنه رآه بعينه, وكذا عن أنس وأبي ذر وكعب والزهري. وعن ابن عباس أنه قال: بعد ما قرأ قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}. هي رؤيا عين، أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس. وروى شريك عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه) وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه، وحُكي أيضاً عن عكرمة، وبعض المتكلمين حكى هذا المذهب عن ابن مسعود، وأبي هريرة. وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس، بعينه رآه، رآه.. (حتى انقطع نفس أحمد) قال الماوردي: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقد اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمداً قد رأى ربه فكبر كعب. وقال المناوي: والرؤية بالمشاهدة العينية التي لم يحتمل الكليم أدنى شيء منها، أو القلبية بمعنى التجلي التام. والأرجح أن الله تعالى جمع له بين الرؤية البصرية والجنانية (أي القلبية). وقد استدل أهل السنة على جواز رؤيته تعالى من الكتاب والسنة، أما الكتاب ففيه أكثر من آية غير قوله تعالى: {وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} منها قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. قال جمهور المفسرين: الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم، وقد روي عن صهيب أنه قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال: "إذا دَخَلَ أهْلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهْلُ النَّارِ النَّارَ، نادىَ مُنادٍ يا أْهلَ الجنَّةِ، إنَّ لَكْمِ عندَ اللهِ مَوْعِداً يُريدُ أنْ يُنجِز كُموهُ، قالُوا: ما هّذا الموعدُ؟ أَلْم يُثْقِلْ مَوازِيننا، ويُنَضّرْ وجُوهَنا، ويُدْخِلنا الجنَّةَ، ويُجِرْنا مَنَ النّارِ؟ قال: فَيُرَفع الحِجابُ فينْظْرونَ إلى وجْهِ اللهِ عزَّ وجَلْ. قال: فما أْعطوا شَيْئاً أحبَّ إليْهمْ مِنَ النَظَرِ". وروى الإمام مسلم عن صهيب أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دَخَلَ أهلُ الجنّةِ الجنّةَ، يَقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: تُريدُون شَيْئاً أزيدُكْم؟ فَيقولُونَ: ألمْ تُبيّض وُجوهَنا؟ ألمْ تُدْخِلنْا الجنَّةَ وتُنَجِنا مِنَ النّارِ؟ فيُكْشَفُ الحجابُ، فما أعطوا شَيئاً أحبّ إليهمْ مِنَ النَظَر إلى ربِّهمْ". وخرجه ابن المبارك في وثائقه عن أبي موسى الأشعري، وخرج النسائي عن صهيب نحوه إلا أنه قال: "يُكْشفُ الحجابُ فَيْنظرون إليْهِ، فو اللهِ ما أعطاهُم الله شيئاً أحَبَّ إلّيهمْ مِنَ النَظَرِ وَلاَ أَقرَّ لأَعْيُنهِمِ". وخرج الترمذي الحكيم عن أبي ابن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله تعالى في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. قال: "النظر إلى وجه الرحمن". وعن قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}. قال: {عشرون ألفاً}. وذكر القرطبي في تفسيره: أن أنساً رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَزِيَادَةٌ}. قال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى، وهي الجنة"، والزيادة: "النظر إلى وجه الله الكريم".
قال القرطبي: وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رواية، وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين، وهو الصحيح في الباب.
فإن قيل: إن الرؤية أجل الكرامات وأعظمها، فكيف يعبر عنها بالزيادة؟ قلنا: للتنبيه على أنها أجل من أن تعد في الحسنات، وفي أجزية الأعمال الصالحات، ومنها قوله تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}. وأما الأحاديث فمنها الحديث الذي ورد في الصحيح فيما روي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال:
"كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَنَظرَ إلى القَمرِ لَيْلَةَ البَدْرِ وقال: إنَّكمْ سَتَروْنَ ربَّكمِ عيانَاً كما تَرَوْنَ هذا القَمرَ، لا تُضامونَ في رؤيتهِ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه وجرير أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هَلْ تُضامونَ في رُؤْيَةِ القمرِ لَيْلةَ البدِرْ، لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنهُ سحابٌ؟ كذلكَ تَرَوْنَ ربّكمْ". والتشبيه للرؤية لا للمرئي، ووجه الشبه عدم الشك والخفاء.
ولم يختلف العلماء من الصحابة رضي الله عنهم في وقوع رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وكذلك من بعدهم من أهل العلم. قال الإمام مالك رضي الله عنه: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى يروه، ولو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة، لم يعير الكافرون بالحجاب. قال تعالى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}.
وذكر الربيع أنه كان ذات يوم عند الشافعي، فجاء كتاب من الصعيد يسألونه فيه عن قوله عز وجل:
{كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}. فكتب: لما حجب قوماً بالسخط دلّ على أن قوماً يرونه بالرضا. وقال ابن العربي: "إن رؤية الله تعالى جُعلت تقوية للمعرفة الحاصلة في الدنيا، فما راءٍ كمن سمعا". وقال محمد بن الفضل: "كما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده، حجبهم في الآخرة عن رؤيته". وقال سيدي ابن عطاء الله: (أمرك في هذه الدار بالنظر في مكوناته، وسيكشف لك في تلك الدار عن كمال ذاته).
- بالأبصار: ظاهره أن الرؤية بالحدق فقط، وهو أحد أقوال ثلاثة. ثانيها: أنها بجميع الوجوه لظاهر قوله تعالى: {وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
ثالثها: أنها بكل جزء من أجزاء البدن، كما نقل عن أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه.
- لكن بلا كيف: لما كان قد يتوهم من إثبات الرؤية بالأبصار أنها تحصل بكيفية من كيفيات الحوادث، من مقابلة، وجهة، وتحيز، وغير ذلك، استدرك بقوله: "لكن بلا كيف"، والمراد بالرؤية بلا كيف خلوها عن الشروط والكيفيات المعتبرة في رؤية الأجسام والأعراض، وكيف يكون شرط مقابلة المرئي عقلياً لا يتخلف. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتي هَاهُنَا؟ فَواللهِ ما يَخْفَى عَليّ خُشْوعُكُمْ ولا رُكُوعُكُمْ، إنِّي لأرَكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْري". وقال أنس رضي الله عنه: "صَلّى بِنا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلاةً، ثُمَّ رَقَى المِنْبَرَ فقال: في الصَّلاةِ وَفِي الرُّكُوعِ إنَّي لأرَاكُمْ مِنْ ورائِي كما أَرَاكُم". وعن مجاهد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء. والضوء شرط عادي في الرؤية. قال ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري بعدما أورد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافاً لأهل البدع لوقوفهم مع العادة".
- ولا انحصار: يعني ولا انحصار للمرئي عند الرائي بحيث يحيط به لاستحالة الحدود والنهايات عليه تعالى. والغرض بهذا الرد على الشبهة النقلية التي أوردها المعتزلة:
وهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}. والحاصل أنه تعالى يرى من غير تكيف بكيفية من الكيفيات المعتبرة في رؤية الأجسام، ومن غير إحاطة، بل يحار العبد في العظمة والجلال حتى لا يعرف اسمه، ولا يشعر بمن حوله من الخلائق، فإن العقل يعجز هنالك عن الفهم ويتلاشى الكل في جنب عظمته تعالى. ولما كان النظر مضمناً معنى الانكشاف قال:
تعليقات