الواجب والمستحيل والجائز فى حق الرسل

59- وَواجِبٌ في حَقِّهِمْ الأمَانَةْ *** وَصِدْقُهُمْ وَضِفْ لَهُ الفَطَانَه

وواجب في حقهم: المراد بالوجوب - هنا - عدم قبول الانفكاك بالنظر للشرع لأن ما ذكر من الواجبات سمعي، نعم، تصديق المعجزة لهم في دعوى الرسالة وضعي لتنزيلها منزلة الكلام، "أي صدق عبدي فيما يبلغ عني"، ودلالة الكلام وضعية، فكذا ما نزل منزلته، وقيل: تصديقها عقلي لتنزهه تعالى عن تصديق الكاذب. والمتبادر عود الضمير بقوله "في حقهم" على الرسل، وقد فسره الشارح بالأنبياء قائلاً: لأن معظم هذه الأحكام لا يختص بالرسل، وإنما يختص بهم وبالأنبياء، فهم مشتركون بكل الأحكام ما عدا التبليغ، إذ أنه خاص بالرسل وحدهم. وبعضهم عممه للأنبياء، لأنه يجب على النبي أن يبلغ أنه نبي ليحترم.
- الأمانة: أي العصمة، وللعلماء فيها عدة تعاريف، لكنها متقاربة، وأحسنها: "أن العصمة ملكة نفسانية تمنع صاحبها الفجور" فتكون الأمانة على هذا هي حفظ ظواهرهم وبواطنهم عليهم الصلاة والسلام من التلبس بمنهي عنه، ولو نهي كراهة أو خلاف الأولى، فأفعالهم دائرة بين الواجب والمندوب، كيف لا؟ وفي الأولياء الذين هم أتباعهم من يصير لمقام تصبح فيه حركاته وسكناته طاعة لله تعالى بالنيات، إذ أن النية تقلب العادة عبادة.
وقد اختلف في وقت وجوب هذه العصمة لهم عليهم الصلاة والسلام، فذهب بعضهم إلى أنها واجبة لهم من أول الولادة إلى آخر العمر، وذهب الآخرون إلى أنها تجب لهم في زمن النبوة، أما قبلها فهي غير واجبة. والذي عليه المعتمد في هذا ما قاله العلامة محمد بخيت المطيعي، من أنهم معصومون قبل النبوة وبعدها، فلا يصدر منهم ذنب لاستحالة صدور كل ما ينفر عنهم قبل النبوة، وما قاله كذلك في "فواتح الرحموت".. وأما قبل النبوة فالتحقيق الذي عليه أهل الله من الصوفية الكرام أنهم معصومون أيضاً من الكبائر والصغائر عمداً، كيف لا وهم إنما يولدون على الولاية، ولا يمر عليهم طرفة عين وهم غير مشاهدين لله تعالى، وولايتهم قوية عن ولاية الأولياء الذين ولايتهم مأخوذة منهم. وقد عقب الشيخ محمد بخيت على هذا بقوله: وقد قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فكان كل رسول مولوداً على الاستعداد التام لأن يكون رسولاً فلذلك كانت ولايته غير مكتسبة برياضات بل فضل من الله تعالى كرسالته، بخلاف الأولياء وما ورد من النصوص الموهمة خلاف العصمة يؤول على أنه من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولا يجوز النطق به في غير مورده إلا في مقام البيان. ودليل وجوبها أنهم لو خانوا فعل محرم أو مكروه، أو خلاف الأولى لكنا مأمورين بذلك المحرم أو المكروه أو خلاف الأولى، لأن الله تعالى قد أمرنا باتباعهم في أقوالهم وأفعالهم من غير تفصيل.
- قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} والله تبارك وتعالى لا يأمر بمحرم ولا بمكروه ولا بخلاف الأولى. كذلك كانوا يأمرون بالطاعات وبترك المعاصي، ولو تركوا الطاعة وفعلوا المعصية لدخلوا تحت قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} ومعلوم أن هذا في غاية القبح، وقد أخبر سبحانه عن رسوله شعيب عليه السلام أنه قد برأ نفسه من ذلك فقال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وقال تعالى أيضاً في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}.
والألف واللام في صيغة الجمع (الخيرات) تفيد العموم، فدخل تحت لفظ (الخيرات) فعل كل ما ينبغي، وترك كل ما لا ينبغي، وذلك يدل على أنهم كانوا فاعلين لكل الطاعات وتاركين لكل المعاصي وقال تعالى أيضاً: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} ولفظ (المصطفين) و(الأخيار) يتناول جملة الأفعال والتروك بدليل جواز الاستثناء، فيقال: فلان من المصطفين الأخيار إلا في كذا، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فدلت هذه الآية على أنهم كانوا من المصطفين الأخيار في كل الأمور، وهذا ينافي صدور الذنب عنهم وقال تعالى في حق موسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} وقال في حق غيره: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} وما ورد في حق موسى عليه السلام في قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}. فيحتمل أن يقال: إنه لكفر القبطي كان مستحقاً للقتل بيد أنه عليه السلام لم يقصد إلا تخليص الذي من شيعته فتأدى به ذلك إلى القتل من غير قصد. علاوة على ما تقدم نورد قوله تعالى حكاية عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} فقد استثنى المخلصين من إغوائه وإضلاله، وشهد تعالى على إبراهيم وإسحق ويعقوب أنهم من المخلصين فثبت بذلك أن إغواء إبليس ووسوسته لا تصل إليهم، وهذا يوجب القطع بعدم صدور المعصية عنهم. كذلك، قال تعالى في حق إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}. والإمام هو الذي يقتدى به، فلو صدر الذنب عن إبراهيم لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجباً، وهو باطل، وقد ورد أن خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قد شهد على وفق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد اشترى فرساً من سواء بن قيس المحاربي، فجحده سواء، فشهد خزيمة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حَمَلَكَ على الشَّهادَةِ وَلَمْ تَكُنْ مَعَنَا حَاضِراً؟ قال صَدّقْتُكَ بما جِئْتَ بِه وَعَلمْتُ أنه لا تَقُولُ إلاّ حَقَّاً"، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ لهُ خُزَيْمَةُ أو عَلَيْهِ، فَهُوَ حَسْبُهُ". ولو كان الذنب جائزاً على الأنبياء لكانت شهادة خزيمة غير جائزة.
- وصدقهم: أي وواجب في حقهم الصدق، وهو مطابقة خبرهم للواقع، ولو بحسب اعتقادهم، ودليل وجوبه أنهم لو لم يصدقوا للزم الكذب في خبره تعالى لتصديقه لهم بالمعجزة النازلة منزلة قوله تعالى: (صدق عبدي في كل ما يبلغ عني) وتصديق الكاذب كذب وهو محال في حقه تعالى فينتج أن عدم صدقهم محال، وإذا استحال عدم الصدق وجب الصدق وهو المطلوب.
- وضف له الفطانة: أي وضم لما تقدم - مما يجب لهم عليهم السلام - وجوب الفطانة وهي التفطن والتيقظ لإلزام الخصوم وإبطال دعاويهم ودحض حججهم. ودليل وجوبها أن من لم يكن فطناً - بأن كان مغفلاً - لا تمكنه إقامة الحجة ولا المجادلة، وهم يتعرضون في دعوتهم - إلى الله عز وجل - لخصوم يجادلونهم، فلا يمكن دفعهم إلا بهذه الخصلة.
- وقدْ قال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}. وقال أيضاً: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ}. أي خاصمتنا فأطلت، أو أتيت بأنواعه. وقالَ أيضاً: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. فإن قيل هذه الآيات واردة في بعضهم، فلا تدل على ثبوتها لجميعهم أجيب: بأنه لما ثبت الكمال لبعضهم ثبت لكلهم، وإن كانوا أنبياء فقط، إذ اللائق بمنصب النبوة أن يكون عندهم من الفطانة ما يريدون به الخصم على تقدير وقوع جدال معه. نعم الواجب للأنبياء مطلق الفطنة، وإنما للرسل كمالها، إذ هم شهود الله على عباده والشاهد لا يكون مغفلاً.‏
ـــــــــــ
60- وَمِثْلُ ذا تَبْلِيْغُهُمِ لما أَتَوا *** وَيَسْتَحِيْلُ ضِدُّها كَما رَوَوْا

ومثل ذا تبليغهم: أي تبليغهم ما أمروا بتبليغه مثل الأمانة والصدق، والفطانة في الوجوب.
- لما أتوا: أي تبليغهم لما جاؤوا به عن الله تعالى واجب بقيد أن يكون مما أمروا بتبليغه للخلق، بخلاف ما أمروا بكتمانه، أو ما خيروا فيه. ودليل وجوب التبليغ أنهم لو كتموا شيئاً مما أمروا بتبليغه للخلق لكنا مأمورين بكتمان العلم، إذ أننا مأمورون بالاقتداء بهم. وبما أنّا غير مأمورين بكتمان العلم، بل كاتمه ملعون، يلزم أنهم لا يكتمون. قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سُئلَ عَنْ عْلمٍ فَكَتمهُ ألِجْمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارِ". وقال أيضاً: "من كتم علماً مما ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". وما ذكره الناظم شروط عقلية للنبوة، أما شروطها الشرعية العادية: فالبشرية، والحرية، والذكورة، وكمال العقل، والذكاء، وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما السلام، والسلامة عن كل ما ينفر من الإتباع حين النبوة. ومنها كونه أعلم من جميع من بعث إليهم بأحكام الشريعة المبعوث بها، أصلية كانت أو فرعية.
- ويستحيل ضدها: أي ضد الصفات الأربعة الواجبة. فالخيانة ضد الأمانة، والكذب ضد الصدق، والغفلة ضد الفطانة، وكتمان شيء مما أمروا بتبليغه ضد التبليغ. فهذه الأضداد مستحيلة في حقهم أي غير قابلة الثبوت.
- كما رووا: أي استحالة الخيانة والكذب والغفلة والكتمان ثابتة بالدليل الشرعي لما رواه العلماء من: (كتاب وسنة وإجماع).‏
ــــــــــــــ
61- وَجَائِزٌ في حَقّهِمْ كالأكلِ *** وكَالجِماعِ للِنِّسا في الحِلِّ

وجائز..: هذا شروع بما يجوز في حقهم رسلاً وأنبياء، وهو ما لا يجب عقلاً ثبوته لهم، ولا نفيه عنهم، ومثل لما يجوز بالأكل والجماع الحلال ليشير إلى أنه لا فرق بين أن يكون الجائز في حقهم من توابع الصحة التي لا يستغنى عنها عادة كالأكل، أو التي يستغنى عنها كالجماع للنساء، لكن الجماع مشروط في حال الحل بأن كان بالملك أو بالنكاح، فيجوز لهم الوطء بالملك، ولو للأمة الكتابية، بخلاف المجوسية ونحوها كالوثنية، ويجوز عليهم سائر الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية كالمرض، ومنه الإغماء إلا أنه قيد بالإغماء غير الطويل، بخلاف الجنون قليله وكثيره لأنه نقص، وبخلاف الجذام والبرص والعمى وغير ذلك من الأمور المنفرة، ولم يثبت أن شعيباً كان ضريراً، وأما ما كان ليعقوب فهو حجاب على العين من تواصل الدموع، ولذلك لما جاءه البشير عاد بصيراً، وما كان بأيوب من البلاء لم يكن منفراً، أما ما اشتهر عنه من الحكايات المنفرة فهي باطلة من فعل اليهود.
وأما السهو فممتنع عليهم في الأخبار البلاغية وغير البلاغية. وجائز عليهم في الأفعال البلاغية وغيرها للتشريع، كالسهو في الصلاة، لكن سهوهم لم يكن ناشئاً عن اشتغالهم بغير ربهم، وفي ذلك قال بعضهم:
قد غاب عن كل شيء سرُّه فسها *** عما سوى الله فالتعظيم لله

وأما النسيان فهو ممتنع في البلاغيات قبل تبليغها، قولية كانت أو فعلية. وأما بعد التبليغ فيجوز نسيان ما ذكر على أنه من الله تعالى، أما نسيان الشيطان فمستحيل عليهم، إذ ليس له عليهم سبيل. وقول يوشع: "وما أنْسانِيْهُ إلاّ الشَّيْطانُ". تواضع منه أو قيل نبوته وعلمه بحال نفسه، وإلا فهو رحماني بشهادة: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} ووسوسة الشيطان لآدم بتمثيل ظاهري، والممنوع في حقهم سلطانه على بواطنهم. وبالجملة فيجوز على ظواهرهم ما يجوز على البشر مما لا يؤدي إلى نقص، وأما بواطنهم فمنزهة أبداً متعلقة بربهم. وفي المنن كان معروف الكرخي رضي الله عنه يقول: "لي ثلاثون سنة في حضرة الله ما خرجت فأنا أكلم الله والناس يظنون أني أكلمهم". فإذا كان هذا حال أحد الأتباع، فما بالك بالأنبياء، خصوصاً رئيسهم الأعظم صلى الله عليه وسلم.‏

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الواجب لله 20 صفة

المستحيل على الله

5/ صفة القيام بالنفس