مقدمة وصلاة على الرسول

1- الحَمْدُ لله عَلى صِلاتِهِ *** ثُمَّ سَلامُ اللهِ مَع صَلاتِهِ

الحمد لله: الحمد لغة: وهو الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل، سواء كان في مقابلة نعمة أم لا * والمدح لغة: هو الوصف بالجميل على الجميل مطلقاً، لا فرق في كونه اختيارياً أو اضطرارياً، ولا فرق في كون الممدوح من ذوي العلم أو لا، كما في مدح الجوهرة لصفاء لونها، ولا فرق في كونه في مقابلة نعمة أو لا * والشكر لغة: هو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث كونه منعماً على الشاكر أو غيره سواء كان ذلك قولاً أو اعتقاداً أو عملاً بالجوارح، فهو أعم من سابقيه لكونهما لا يتعديان الكلام، وهو قول وفعل واعتقاد، وأخص من سابقيه بأنه لا يكون إلا مقابلة نعمة من المشكور، سواء أعادت على الشاكر أو على غيره، وهما يكونان في نعمة وغيرها.
- والثناء لغة: هو فعل ما يشعر بتعظيم المثنى عليه، ولم يشترط فيه كونه في مقابلة نعمة، فهو أعم الجميع.
- وقد اشتهر أن الحمد عرفاً: هو نفس الشكر لغة، والشكر عرفاً هو: "صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به فيما خلق من أجله" * والحمد إما أن يكون قديماً، كحمده تعالى نفسه أو حمده تعالى رسله وعباده الصالحين، أو يكون حادثاً، كحمدنا لله سبحانه أو حمد بعضنا لبعض * وأل في الحمد إما للاستغراق، أو للجنس أو للعهد. واللام في الله إما للاستحقاق أو للاختصاص، ويجوز للملك إن لم نجعل أل عهدية، لئلا يترتب تمليك الحمد القديم، وهو لا يملك، فإن جعلنا المعهود حمد من يعتد بحمده ساغ.
- على صِلاته: الصلات جمع صلة، وهي العطية، والحمد على الصلات إما بمعنى العطايا فيكون حمداً على الصفة بواسطة، أو بمعنى الإعطاء، وهو أولى، لأنه حمد على الصفة بلا واسطة.
 - ثم سلام الله: أي تحيته اللائقة به صلى الله عليه وسلم بحسب ما عنده تعالى كما تشعر به إضافته له تعالى، فالمطلوب تحية عظمى بلغت الدرجة القصوى وتكون أعظم التحيات لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم المخلوقات * والمراد بالتحية أن يسمعه كلامه القديم الدال على رفعة مقامه العظيم. ولم يرتض بعضهم تفسير السلام بالأمان، لأنه ربما أشعر بمظنة الخوف مع أن أتباعه {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. نعم يخاف صلى الله عليه وسلم لكنه خوف مهابة وإجلال لذلك قال: "إني لأخوفكم من الله".
 - مع صَلاته: أي رحمته المقرونة بالتعظيم، وهذا هو اللائق بالمقام، وقيل: هي مطلق الرحمة سواء قرنت بالتعظيم أم لم تقرن، وهذا بيان للصلاة مع قطع النظر عن المقام.
- وفسر الجمهور الصلاة بأنها من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن غيرهم- ولو حجراً أو مدراً أو شجراً- التضرع والدعاء، فقد ورد أنها صلت عليه صلى الله عليه وسلم مع أن المشهور سلامها فقط، وإن شئت قلت: هي من الله الرحمة ومن غيره الدعاء.
- واختلف العلماء في انتفاعه صلى الله عليه وسلم بصلاتنا عليه، فقيل: ينتفع كباقي الأنبياء، لكن لا ينبغي التصريح بذلك إلا في مقام التعليم، وقيل: المنفعة تعود للمصلي، لأنه صلى الله عليه وسلم أفرغت عليه جميع الكمالات، ورد بأنه ما من كمال إلا وعند الله أكمل منه. والكامل يقبل الزيادة في الكمال * وغاية الأمر أنه لا ينبغي للمصلي أن يلاحظ انتفاعه صلى الله عليه وسلم بل نلاحظ أنه يتقرب بالصلاة إلى الله تعالى.
- ملاحظة: قال النووي: يستحب الحمد في ابتداء الكتب المصنفة ودرس المدرسين وقراءة الطالبين بين يدي معلميهم، وأحسن العبارات "الحمد لله رب العالمين".
- فائدة: إن إثبات الصلاة والسلام في صدر الكتب والرسائل حدث في ولاية بني هاشم، ثم مضى العمل على استحبابه، ومن العلماء من يختتم بهما كتابه.‏
ـــــــــــــــ
2- عَلَى نَبيٍ جَاءَ بِالتَوْحِيدِ *** وَقَدْ خَلا الدينُ عَنِ التَوْحِيدِ

على نبي: النبي مشتق من النبأ أي الخبر، فهو بمعنى مخبر عن الله إن كان مع نبوته رسولاً، أو مخبر عن حال نفسه إن لم يكن رسولاً ليحترمه الناس وفي كلا الحالين ينزل عليه ملك الوحي يخبره عن الله تعالى، فعلى هذا هو مخبر * أما لو قلنا: إنه مشتق من النبوة أي الارتفاع، فبمعنى رافع ومرفوع، لأنه رافع لشأن من اتبعه على غيره ممن لم يتبعه، قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولأنه مرفوع المنزلة.
- وقد عبر المصنف بلفظ النبي ولم يعبر بالرسول للآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
وإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يستحق الصلاة والسلام بعنوان النبوة التي هي أعم من الرسالة، فيكون مستحقاً لها بعنوان الرسالة من باب أولى، فإن الرسالة حيث وجدت وجدت النبوة، ولا عكس.
- وعرّفوا النبي بأنه: إنسان ذكر، حر، سليم عن المنفر طبعاً، أوحي إليه بشرع يعمل به، وإن لم يؤمر بتبليغه، والرسول يعرف بهذا إلا أننا نقول: وأوحي إليه بشرع يعمل به وأمر بتبليغه.
- وبناء على التعريف السالف يخرج الجن والملائكة وبقية الحيوانات والإناث، وكفر من قال: إن معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ}. أن في كل جماعة من الحيوانات رسولاً * والقول بنبوة مريم وآسية وحواء وأم موسى وهاجر وسارة مرجوح، قال صاحب "بدء الأمالي" وما كانت نبياً قط أنثى * ولقمان لم يكن نبياً بل تلميذ الأنبياء.
- ومن كان فيه منفر كعمى وبرص وجذام فلا يكون نبياً ولا رسولاً، وأما بلاء أيوب وعمى يعقوب فهما أمران ظاهريان، أو أنهما حصلا بعد تقرر النبوة، والكلام فيما قارنها، وأما قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}. فمعناه ألم يأتكم رسل من بعضكم أي الإنس، وأما قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً}. فمعناه يصطفي سفراء بينه وبين أنبيائه ليبلغوهم عنه سبحانه شرائعه وأحكامه * وقد اختلف في عدد الأنبياء والرسل فقيل: مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، وثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، لكن الأسلم أن نمسك عن ذلك، لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}.
- جاء بالتوحيد: المراد بالمجيء الإرسال، والمراد بالنبي المرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، والجملة المخصصة بأن نبينا هو المراد قوله: "وقد خلا الدين عن التوحيد" لأنه لم يأت نبي بالتوحيد في حال خلو الدين عنه إلا هو صلى الله عليه وسلم * وقد أرسله الله تعالى على رأس الأربعين سنة إلى جميع المكلفين من الإنس والجن، أما الملائكة فقد أرسل إليهم إرسال تشريف، لأن طاعتهم جبلية لا يكلفون بها، هذا ما اعتمده الرملي في شرح المنهاج * وكونه صلى الله عليه وسلم مرسلاً لكافة الإنس والجن مجمع عليه، ومعلوم من الدين بالضرورة، فيكفر منكره * والتعبير برأس الأربعين يفيد أنه بعث عند استكمالها من غير زيادة ولا نقصان، وهو الصحيح الذي عليه الجمهور. والصحيح أن نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم مقترنتان * وإنما كان الإرسال على رأس الأربعين لأنه العادة المستمرة في معظم الأنبياء، أو جميعهم، كما جزم به كثيرون، منهم شيخ الإسلام في حواشي البيضاوي: وإنما استدلوا بالعادة المستمرة، ولم يستدلوا بحديث: "ما نبئ نبي إلا على رأس الأربعين سنة". لعد ابن الجوزي له في الموضوعات. وذكر العلامة الشيخ الأمير والعلامة الشيخ الشنواني: أن الحق هو أن هذا السن غالب فقط في النبوة، وإلا فقد نبئ عيسى ورفع إلى السماء وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، ونبئ يحيى صبياً، بناء على أن الحكم الذي أوتيه صبياً هو النبوة. لكن ذكر في حواشي التفسير نقلاً عن المواهب: أن هذا خلاف التحقيق، وقالوا: الصحيح أن عيسى ما رفع إلا بعد مضي ثمانين سنة من النبوة، وبعد نزوله من السماء يعيش أربعين سنة.
- أما قوله تعالى عن يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}. فالمراد بالحكم العلم والمعرفة لا النبوة، وأما قوله عن عيسى: {آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}. فمعنى جعلني: سيجعلني، ومعنى آتاني: سيؤتيني، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. بمعنى سيأتي * وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بطلب التوحيد. والتوحيد لغة هو العلم بأن الشيء واحد وشرعاً هو إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته والتصديق بها ذاتاً وصفاتا وأفعالاً فليس ثمة ذات تشبه ذاته تعالى، إذ لا تقبل ذاته الانقسام لا فعلاً ولا وهماً ولا فرضاً مطابقاً للواقع، ولا تشبه صفاته الصفات، ولا تعدد فيها من جنس واحد بأن يكون له تعالى قدرتان أو علمان مثلاً.
ولا يدخل في أفعاله الاشتراك، إذ لا فعل لغيره سبحانه خلقاً أو إيجاداً، وإن نسب إلى غيره كسباً واكتساباً * وقيل: التوحيد هو إثبات ذات غير مشبه للذوات ولا معطلة عن الصفات * وخص الناظم التوحيد بالذكر - مع أنه صلى الله عليه وسلم أتى بنظام شامل للحياة كلها - لأنه أشرف العبادات ويليه الصلاة * وله تعريف شرعي بأنه علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية من أدلتها اليقينية * وموضوعه ذات الله تعالى من حيث ما يجب له وما يستحيل له وما يجوز في حقه وذات الرسل كذلك، والممكنات من حيث إنه يتوصل بها إلى وجود صانعها، والسمعيات من حيث اعتقادها * وثمرته معرفة الله تعالى بالبراهين القطعية والفوز بالسعادة الأبدية * وفضله أنه أشرف العلوم لكونه متعلقاً بذات الله تعالى وذوات رسله فهو أصل لما سواه، والذي حرر أدلته وألف كتبه ورد الشبه عنه أبو الحسن الأشعري ومن تبعه وأبو منصور الماتريدي ومن تبعه. وقد أتى بالتوحيد كل نبي من لدن آدم عليه الصلاة والسلام * وسمي علم التوحيد لأن مبحث الوحدانية أشهر مباحثه، ويسمى علم الكلام أيضاً * واستمد من الأدلة العقلية والنقلية * وأما حكم الشارع فيه فالوجوب العيني على كل مكلف من ذكر أو أنثى * وأما مسائله فهي قضاياه الباحثة عن الواجبات والجائزات والمستحيلات.
- وعبارته "قد خلا الدين عن التوحيد": تقتضي أن ما عليه عبدة الأصنام سمي ديناً، وهو كذلك، لأن الدين ما يتدين به، ولو باطلاً. كما دل له قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.
- ويطلق الدين لغة على عدة معان منها الطاعة، والعبادة، والجزاء، والحساب، واصطلاحاً: هو ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه من الأحكام. * وسمي ديناً: لأننا ندين له وننقاد، وملة: من حيث إن الملك يمليه على الرسول وهو يمليه عليناً، وشرعاً وشريعة: من حيث إن الله قد شرعه لنا أي بينه على لسان نبيه، فالله تعالى هو الشارع حقيقة في كل ما يأتينا به النبي، "ولما كان القرآن الكريم منزلاً على النبي صلى الله عليه وسلم كان النبيّ طريقاً في البيان فأسند إليه الشرع بمعنى تبيين الأحكام".
- والأحكام الفقهية الاجتهادية: من الدين قطعاً، وهي موضوع إلهي غاية الأمر أنه يخفى علينا، والمجتهدون يعانون إظهارها والاستدلال عليها بقواعد الشرع، ولا دخل لهم في وضعها البتة.‏
ــــــــــــــــ
3- فَأْرْشَدَ الخَلْقَ لِدِيْنِ الحقِّ *** بِسَيْفِهِ وَهَدْيِهِ لِلْحّقِّ

فأرشد الخلق: أي جاء بالتوحيد فأرشد الخلق بسيفه، ويقتضي أنه أرشد بالسيف عقب الإرسال، لأن الفاء تقتضي التعقيب مع أنه لم يشرع الجهاد إلا في صفر من السنة الثانية للهجرة، كما نبه عليه في السيرة الحلبية. وأجيب بأن التعقيب في كل شيء بحسبه، تقول: جاء فسلم، وتزوج فولد له ولد، أو يجاب بأن الفاء بمعنى ثم أي تفيد الترتيب والتراخي كقوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}- ومعنى الإرشاد إما تصييرهم راشدين، فيكون خاصاً بمن آمن، أو بمعنى الدلالة لهم على الهداية، فيكون عاماً بمن آمن وبمن لم يؤمن. والخلق: جميع الثقلين الإنس والجن إجماعاً، وكذا الملائكة بناء على أنه مرسل إليهم إرسال تكليف خلافاً للراجح من أنه إرسال تشريف.- وإنما استقام العموم في الخلق مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يرشد من لم يجتمع به لكون الإرشاد أعم من أن يكون بنفسه أو بواسطة، كمن جاء بعده أو كان في زمنه ولم يجتمع به، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع".
- لدين الحق: الحق هنا، هو اسم الله تعالى، ومعناه المتحقق وجوده دائماً وأبداً بحيث لا يسبقه عدم ولا يلحقه عدم.
- بسيفه: السيف هو آلة الجهاد التي يباح قتال الحربيين بها حتى الحجارة، فقد رمى صلى الله عليه وسلم بالحجر يوم أحد. وقد كان له سيوف متعددة، منها المأثورة، وهو أول سيف ملكه إذ ورثه عن أبيه، ومنها القضيب، وذو الفقار، وقد دفع لعكاشة جزل حطب حين انكسر سيفه يوم بدر، وقال: اضرب به، فعاد في يده سيفاً صارماً طويلاً أبيض شديد المتن فقاتل به * والمراد بالسيف هنا السيف الذي جاء بمشروعية مقاتلة أعداء الله، سواء كان بيده، أو بيد من تبعه، ولو إلى يوم القيامة. وقد أرشد النبيّ الخلق لدين الله حال كونه متلبساً بسيفه، لأن الإرشاد والدلالة ليسا بالسيف قطعاً بل باللسان.
- وهديه للحق: حمل بعضهم الهدي على القرآن الكريم والسنة الشريفة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يراسل الناس أولاً بالقرآن والدعوة للإسلام، فإن أجابوا للإسلام فظاهر، وإلا أعلمهم بالتهيؤ للجهاد. وهكذا خلفاؤه وأصحابه من بعده * وقد قدم الناظم السيف على الهدي مع أن الهدي سابق على الجهاد - بل لم يتوان الرسول صلى الله عليه وسلم لحظة واحدة عن أن يبلغ منذ ابتعثه الله سبحانه - لأن للجهاد أهمية عظمى، ولأن ما جاء به لا يظهر إلا بالجهاد خصوصاً في مبدأ دعوته.‏
ـــــــــــــ
 4- مُحمدُ العاقِبْ لرُسْلِ رَبِّهِ *** وآلِهِ وصَحْبِهِ وحِزْبِهِ

محمد: علم منقول من اسم مفعول المضعف، (حُمِّد) فهو أبلغ من محمود، والرسول صلى الله عليه وسلم أجل من حمد وأعظم من حمد. وهذا الاسم أشرف أسمائه، وهي توقيفية باتفاق، أما أسماؤه تعالى ففيها خلاف، والراجح أنها توفيقية، والحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بشر فربما تسوهل في شأنه فأطلق عليه ما لا يليق، فسدت الذريعة باتفاق، وأما مقام الألوهية فلا يتجاسر عليه أحد، فلذلك قيل بعدم التوقيف * والمسمي له صلى الله عليه وسلم بذلك الاسم جده على الصحيح، وقيل: أمه، وجمع بأنها أشارت عليه بالتسمية بسبب ما رأته من أن شخصاً يقول لها: فإذا ولدته فسميه محمداً فلما أخبرته بذلك سماه محمداً رجاء أن يحمد في السماء والأرض، وقد حقق الله تعالى رجاءه كما سبق في علمه تعالى * والمسمي له به حقيقة هو الله تعالى لأنه أظهر اسمه قبل ولادته في الكتب السماوية، فهو بتوقيف شرعي، قال تعالى على لسان السيد المسيح: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.
- العاقب: إنما كان صلى الله عليه وسلم العاقب لرسل ربه ليكون شرعه ناسخاً للشرائع التي قبله، ولأنه الثمرة العظمى، إذ هو المقصود من هذا العالم، والثمرة في الأشياء لا تأتي إلا آخرها، ولا ينافي نزول السيد المسيح في آخر الزمن، لأنه سيحكم بالإسلام.
- وكما أنه خاتم للرسل هو خاتم للأنبياء، وقد اقتصر المصنف على ذكر الرسل دون الأنبياء وهو يريد العاقب لرسل ربه وأنبيائه على حد قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} أي والبرد، واقتصر على ذكر الرسل - مع أنه لا يلزم من ختم الأخص الذين هم الرسل ختم الأعم الذين هم الأنبياء - حملاً على قول السعد من تساوي الرسول والنبي * وإنما اختار التعبير بالرسل لأنه أمدح: فإن الرسالة أشرف من النبوة لجمعها بين الحق والخلق خلافاً للعز بن عبد السلام في قوله: إن النبوة أفضل لأن فيها انصرافاً من الخلق إلى حضرة الحق، والرسالة فيها انصراف من حضرة الحق إلى الخلق، ورد هذا التفضيل: بأن الرسالة فيها الجمع بينهما.
- ربه: أي خالقه أو مالكه أو نحو ذلك من معاني الرب.
- وآلِه: أي وسلام الله مع صلاته على آله. والآل له معان باعتبار المقامات، ففي الدعاء - كما هنا - كل مؤمن ولو عاصياً، وفي المدح كل مؤمن تقي أخذاً مما ورد: "آلُ محمدٍ كلُّ تقيٌ" وإن كان ضعيفاً، وأما: "أنا جَدُّ كلِّ تقِّيٍ". فلم يرد.
- وفي مقام الزكاة بنو هاشم وبنو المطلب عندنا معاشر الشافعية، وبنو هاشم فقط عند السادة المالكية والحنابلة، وخص الحنفية فرقاً خمساً "آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس وآل الحارث" * والصلاة على غير الأنبياء والملائكة تبعاً جائزة اتفاقاً، بل مطلوبة للنهي عن الصلاة البتراء، وهي التي لم يذكر فيها الآل * أما الصلاة استقلالاً فقيل بمنعها، وقيل بكراهتها، وقيل بأنها خلاف الأولى والأصح الكراهة.
- وصحبه: خصهم مع دخولهم في الآل بالمعنى الأعم لمزيد الاهتمام. والصاحب لغة: من طالت عشرتك به، والمراد هنا الصحابي وهو: من اجتمع بنبينا صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، بعد البعثة، في محل التعارف، بأن يكون على وجه الأرض، وإن لم يره، أو لم يَرْوِ عنه شيئاً، أو لم يميز على الصحيح، وأما قولهم: "ومات على الإسلام" فهو شرط لدوام الصحبة، لا لأصلها. فإن ارتد (والعياذ بالله) ومات مرتداً، فليس بصحابي، كعبد الله بن خَطَلْ، وأما من عاد إلى الإيمان كعبد الله بن أبي سرح فتعود له الصحبة، لكن مجردة من الثواب عندنا معاشر الشافعية. واشتهر أنها لا تعود عند المالكية، لكن المصرح به في كتبهم التردد. وفائدة عودها التسمية والكفاءة، فيسمى صحابياً، ويكون كفؤاً لبنت الصحابي * ويدخل في الصحابي عبد الله بن أم مكتوم أحد المؤذنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحو ابن أم مكتوم من العميان، وتدخل الملائكة الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم في الأرض. وعيسى عليه الصلاة والسلام آخر الصحابة من البشر الظاهرين، وأما الملائكة فباقون إلى النفخة.
- وحزبه: أي جماعته. والحزب الجماعة الذين أمرهم واحد في خير أو في شر، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} والظاهر أن المراد به هنا من غلبت ملازمته له صلى الله عليه وسلم لأنهم أخص من الصحب الذين هم أخص من الآل، ويحتمل أن يراد به أتباعه مطلقاً، سواء كانوا في عصره أم لا، وهو الأولى، لما فيه من التعميم، ولا يغني عنه الآل لتخصيص بعضهم له بالأتقياء.‏
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقية المقدمة

5- وبعدُ فالعلمُ بأصلِ الدينِ *** محتُمٌ يحتاجُ للتَّبيينِ

وبعد فالعلم: أي وبعد البسملة والحمدلة والصلاة والسلام فأقول: إن العلم بأصل الدين محتم * والعلم هو إدراك الشيء بحقيقته، كما قاله الراغب، وهو كقول شيخ الإسلام: إدراك الشيء على ما هو به، ويطلق حقيقة عرفية: أولاً - على القواعد المدونة. وثانياً - على الملكة التي يقتدر بها على إدراكات جزئية، والمراد هنا الأول بدليل الحكم عليه بالتحتم، فتكون حقيقة علم التوحيد على هذا: هي قواعده المدونة التي تشمل الإلهيات والنبويات والسمعيات * ويقابله الجهل، وهو بسيط ومركب، أما البسيط فعدم العلم بالشيء عما من شأنه العلم، والمركب: هو إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع، وسمي مركباً لاستلزامه جهلين، جهلاً بالشيء وجهلاً بجهله * والتعبير بالعلم بأصل الدين يشعر بمدح هذا الفن لابتناء الدين عليه، إذ كل أعمال الإسلام بمثابة الثمرة للتوحيد وقد ختم الشارع الحكيم هذا العلم وأوجبه، ولم يرخص بتركه فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} فيجب على كل مكلف من ذكر أو أنثى وجوباً عينياً معرفة كل عقيدة بدليل، ولو إجمالياً، وأما معرفتها بالدليل التفصيلي ففرض كفاية، فيجب على أهل كل قطر يشق الوصول منه إلى غيره أن يكون فيهم من يعرفها بالدليل التفصيلي، لأنه ربما طرأت الشبهة فيدفعها * وبعضهم أوجب الدليل التفصيلي وجوباً عينياً، وفيه تضييق لرحمة الله الواسعة، وجعل الجنة مختصة بطائفة يسيرة، فالحق أن الواجب وجوباً عينياً إنما هو الدليل الإجمالي، وهو المعجوز عن تقريره وحل شبهه، أما الدليل التفصيلي فهو المقدور على تقريره وحل شبهه * فإذا قيل لك (ما الدليل على وجود الله تعالى) فقلت: هذا العالم، ولم تعرف جهة الدلالة فيه معرفة مصحوبة بذكرها على الوجه المعتبر عند المناطقة فهو دليل جملي، وكذلك إذا عرفت جهة الدلالة فيه، ولم تقدر على حل الشبه الواردة عليها، أما إذا عرفت جهة الدلالة معرفة مصحوبة بتقريرها على الوجه المعتبر وقدرت على حل الشبه فهو دليل تفصيلي * فإذا قيل لك ما الدليل على وجوده تعالى؟ فقلت: هذا العالم، وعرفت جهة الدلالة، وهي الحدوث أو الإمكان، وقدرت على حل الشبه فيهما فهو دليل تفصيليّ، فتقول في تقريره: إما إن العالم حادث، وكل حادث لابد له من محدث. أو إن العالم ممكن وجوده، وعدمه، وكل ممكن لابد له من مرجح يخرجه من العدم إلى الوجود، أو بالعكس، والمرجح هو الصانع، إذاً فالعالم له صانع * لأن العالم قد سبقه العدم، وكل ما سبقه عدم فهو حادث، مهما تقادم عليه العهد، وخروجه من العدم إلى الوجود لا يكون إلا بمخرج، لأن العدم لا ينتج شيئاً. وقد قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} وقال أيضاً: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً}. وجاء في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره". ففي كل هذا لفتٌ رائع إلى أن الأكوان كانت في ثنايا العدم، غارقة في لججه، ولم يكن إلا الله الواجب الوجود، فيا عجباً كيف يسوغ في العقول أن الكون لا يحتاج لمحدث، مع أن كل شيء فيه يشهد عليه، ويرفض إلا الإشارة إليه؟ بل كيف يسوغ في بعضها أن الله تعالى الذي لا بداية لوجوده يحتاج لموجد؟! فترى بعضهم يتهافتون على السؤال: مَن خلق الله؟! ويلجون فيه دون أن يسمحوا لأنفسهم بالسؤال عمن خلق الكون، مع أن افتقار الكون للخالق إنما هو بديهي. ألا إنها وسوسة الشيطان نبهنا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟! فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل "آمنت بالله ورسوله".
وهذا السؤال وإن كان خطأ من أساسه، لأن الله تعالى واجب الوجود، بمعنى أنه لم يسبق وجوده عدم، كما أنه لا يعتور وجوده عدم، ومَن كان كذلك فكيف يسأل فيه هذا السؤال! إلا أنه لمّا كان يختلج بعض النفوس مثل هذا الخاطر أردنا أن نوضح الجواب بمثال يريح الضمير إن شاء الله تعالى فنقول: إذا وضعت كتاباً على مكتبك، ثم خرجت من الحجرة، وعدت إليها بعد قليل فرأيت الكتاب الذي تركته على المكتب موضوعاً في الدرج، فإنك تعتقد تماماً أنّ أحداً لابد قد وضعه في الدرج، لأنك تعلم من صفات هذا الكتاب أنه لا ينتقل بنفسه (احفظ هذه النقطة وانتقل معي إلى نقطة أخرى) * لو كان معك في حجرة مكتبك شخص جالس على الكرسي، ثم خرجت وعدت إلى الحجرة فرأيته جالساً على البساط - مثلاً - فإنك لا تسأل عن كيفية انتقاله، ولا يخطر لك أنّ أحداً نقله من موضعه، لأنك تعلم من صفات هذا الشخص أنه ينتقل بنفسه ولا يحتاج إلى مَن ينقله (احفظ هذه النقطة الثانية أيضاً ثم اسمع ما أقوله) إنه لما كانت هذه المخلوقات محدثة، ونحنّ نعلم من طبائعها وصفاتها أنها لا توجد بذاتها، بل لابد لها من موجد، كما سبق وبيناه، عرفنا أن موجدها هو الله تبارك وتعالى * ولما كان كمال الألوهية يقتضي عدم احتياج الإله إلى غيره، بل إن من صفاته قيامه بنفسه، ومعناه عدم احتياجه لموجد، عرفنا أن الله تعالى موجود بذاته أزلاً، وأنه غير محتاج إلى مَن يوجده * وإذا وضعت النقطتين السابقتين إلى جانب هذا الكلام، اتضح لك هذا المقام * ونعود إلى دليل الإمكان بعد أن شرحنا دليل الحدوث فنقول: الممكن هو كل أمر قابل في حد ذاته للانتفاء والثبوت، أفرأيت كفتي الميزان، وقبول كل منهما للارتفاع والانخفاض؟ فهل يتصور رجحان إحداها إلا بمثقال؟ والأكوان إنما هي ممكنة الوجود في ذاتها، لأنه لو وجب وجودها لما سبقه العدم، ولو استحال وجودها لما وجدت. فعليه لا يمكن أن يرجح وجودها على عدمها إلا بمرجح، وهذا المرجح إما أن يكون ممكناً، أو مستحيلاً، أو واجب الوجود. إذ أن أقسام الحكم العقلي ثلاثة، الواجب والجائز والمستحيل. والممكن عاجز عن إظهار نفسه فكيف يظهر غيره؟! والمستحيل لا يقبل الوجود أصلاً، فكيف يمنحه غيره، فلم يبق من الأقسام الثلاثة إلا واجب الوجود * كذلك كل ممكن تعتوره حالات شتى من الإمكانّ، في الكم (أي المقادير) والكيف (أي الأحوال) والزمان والمكان، والجهة والصفات. فتخصيص كل ممكن على حالة ما دون سائر ما يجوز عليها منها - مع قبولها لها قبولاً ذاتياً، ودون أي تفاوت - لا يتحصل إلا بمخصص، يخصص هذه الحالة دون غيرها. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى دلالة اختلاف الأحوال في الممكنات، وأنها تدل على خالقها الذي خصصها ببعض ما يجوز عليها فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وقال أيضاً: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقال أيضاً: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وقال: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} وقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}. ألا من مستبصر حكيم، كبح جماح هواه، وانعتق من أمر الاستكبار وشهوة العلو في الأرض، فيتدبر هذا * ويقوم مقام معرفة كل عقيدة بدليل لو عرف العقائد بالكشف. أما من عرفها بالتقليد فقد اختلف فيه، والصحيح أنه مؤمن عاص، إن قدر على النظر، وغير عاص إنّ لم يقدر على النظر. وقيل: إنه كافر، وجرى على هذا السنوسي في شرح الكبرى وشنع على القول بكفاية التقليد، لكن حكي عنه أنه رجع إلى القول بكفايته.
- يحتاج للتبيين: إنما احتاج هذا الفن للتبيين لأنه لما حدثت المبتدعة وكثر جدالهم مع علماء الإسلام أوردوا شبهاً على ما قرره الأوائل، وخلطوا تلك الشبه بكثير من القواعد الفلسفية، فقصد المتأخرون إلى دفعها، واحتاجوا إلى إدراجها في كلامهم ليتمكنوا من ردها * وقد افترقت الأمة ثلاثاً وسبعين فرقة منهم فرقة ناجية، وهي التي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واثنان وسبعون في النار كما في حديث عبد الله بن عمر حيث قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي".
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على، ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة".‏
ـــــــــــــ
5- وبعدُ فالعلمُ بأصلِ الدينِ *** محتُمٌ يحتاجُ للتَّبيينِ

وبعد فالعلم: أي وبعد البسملة والحمدلة والصلاة والسلام فأقول: إن العلم بأصل الدين محتم * والعلم هو إدراك الشيء بحقيقته، كما قاله الراغب، وهو كقول شيخ الإسلام: إدراك الشيء على ما هو به، ويطلق حقيقة عرفية: أولاً - على القواعد المدونة. وثانياً - على الملكة التي يقتدر بها على إدراكات جزئية، والمراد هنا الأول بدليل الحكم عليه بالتحتم، فتكون حقيقة علم التوحيد على هذا: هي قواعده المدونة التي تشمل الإلهيات والنبويات والسمعيات * ويقابله الجهل، وهو بسيط ومركب، أما البسيط فعدم العلم بالشيء عما من شأنه العلم، والمركب: هو إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع، وسمي مركباً لاستلزامه جهلين، جهلاً بالشيء وجهلاً بجهله * والتعبير بالعلم بأصل الدين يشعر بمدح هذا الفن لابتناء الدين عليه، إذ كل أعمال الإسلام بمثابة الثمرة للتوحيد وقد ختم الشارع الحكيم هذا العلم وأوجبه، ولم يرخص بتركه فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} فيجب على كل مكلف من ذكر أو أنثى وجوباً عينياً معرفة كل عقيدة بدليل، ولو إجمالياً، وأما معرفتها بالدليل التفصيلي ففرض كفاية، فيجب على أهل كل قطر يشق الوصول منه إلى غيره أن يكون فيهم من يعرفها بالدليل التفصيلي، لأنه ربما طرأت الشبهة فيدفعها * وبعضهم أوجب الدليل التفصيلي وجوباً عينياً، وفيه تضييق لرحمة الله الواسعة، وجعل الجنة مختصة بطائفة يسيرة، فالحق أن الواجب وجوباً عينياً إنما هو الدليل الإجمالي، وهو المعجوز عن تقريره وحل شبهه، أما الدليل التفصيلي فهو المقدور على تقريره وحل شبهه * فإذا قيل لك (ما الدليل على وجود الله تعالى) فقلت: هذا العالم، ولم تعرف جهة الدلالة فيه معرفة مصحوبة بذكرها على الوجه المعتبر عند المناطقة فهو دليل جملي، وكذلك إذا عرفت جهة الدلالة فيه، ولم تقدر على حل الشبه الواردة عليها، أما إذا عرفت جهة الدلالة معرفة مصحوبة بتقريرها على الوجه المعتبر وقدرت على حل الشبه فهو دليل تفصيلي * فإذا قيل لك ما الدليل على وجوده تعالى؟ فقلت: هذا العالم، وعرفت جهة الدلالة، وهي الحدوث أو الإمكان، وقدرت على حل الشبه فيهما فهو دليل تفصيليّ، فتقول في تقريره: إما إن العالم حادث، وكل حادث لابد له من محدث. أو إن العالم ممكن وجوده، وعدمه، وكل ممكن لابد له من مرجح يخرجه من العدم إلى الوجود، أو بالعكس، والمرجح هو الصانع، إذاً فالعالم له صانع * لأن العالم قد سبقه العدم، وكل ما سبقه عدم فهو حادث، مهما تقادم عليه العهد، وخروجه من العدم إلى الوجود لا يكون إلا بمخرج، لأن العدم لا ينتج شيئاً. وقد قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} وقال أيضاً: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً}. وجاء في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره". ففي كل هذا لفتٌ رائع إلى أن الأكوان كانت في ثنايا العدم، غارقة في لججه، ولم يكن إلا الله الواجب الوجود، فيا عجباً كيف يسوغ في العقول أن الكون لا يحتاج لمحدث، مع أن كل شيء فيه يشهد عليه، ويرفض إلا الإشارة إليه؟ بل كيف يسوغ في بعضها أن الله تعالى الذي لا بداية لوجوده يحتاج لموجد؟! فترى بعضهم يتهافتون على السؤال: مَن خلق الله؟! ويلجون فيه دون أن يسمحوا لأنفسهم بالسؤال عمن خلق الكون، مع أن افتقار الكون للخالق إنما هو بديهي. ألا إنها وسوسة الشيطان نبهنا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟! فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل "آمنت بالله ورسوله".
وهذا السؤال وإن كان خطأ من أساسه، لأن الله تعالى واجب الوجود، بمعنى أنه لم يسبق وجوده عدم، كما أنه لا يعتور وجوده عدم، ومَن كان كذلك فكيف يسأل فيه هذا السؤال! إلا أنه لمّا كان يختلج بعض النفوس مثل هذا الخاطر أردنا أن نوضح الجواب بمثال يريح الضمير إن شاء الله تعالى فنقول: إذا وضعت كتاباً على مكتبك، ثم خرجت من الحجرة، وعدت إليها بعد قليل فرأيت الكتاب الذي تركته على المكتب موضوعاً في الدرج، فإنك تعتقد تماماً أنّ أحداً لابد قد وضعه في الدرج، لأنك تعلم من صفات هذا الكتاب أنه لا ينتقل بنفسه (احفظ هذه النقطة وانتقل معي إلى نقطة أخرى) * لو كان معك في حجرة مكتبك شخص جالس على الكرسي، ثم خرجت وعدت إلى الحجرة فرأيته جالساً على البساط - مثلاً - فإنك لا تسأل عن كيفية انتقاله، ولا يخطر لك أنّ أحداً نقله من موضعه، لأنك تعلم من صفات هذا الشخص أنه ينتقل بنفسه ولا يحتاج إلى مَن ينقله (احفظ هذه النقطة الثانية أيضاً ثم اسمع ما أقوله) إنه لما كانت هذه المخلوقات محدثة، ونحنّ نعلم من طبائعها وصفاتها أنها لا توجد بذاتها، بل لابد لها من موجد، كما سبق وبيناه، عرفنا أن موجدها هو الله تبارك وتعالى * ولما كان كمال الألوهية يقتضي عدم احتياج الإله إلى غيره، بل إن من صفاته قيامه بنفسه، ومعناه عدم احتياجه لموجد، عرفنا أن الله تعالى موجود بذاته أزلاً، وأنه غير محتاج إلى مَن يوجده * وإذا وضعت النقطتين السابقتين إلى جانب هذا الكلام، اتضح لك هذا المقام * ونعود إلى دليل الإمكان بعد أن شرحنا دليل الحدوث فنقول: الممكن هو كل أمر قابل في حد ذاته للانتفاء والثبوت، أفرأيت كفتي الميزان، وقبول كل منهما للارتفاع والانخفاض؟ فهل يتصور رجحان إحداها إلا بمثقال؟ والأكوان إنما هي ممكنة الوجود في ذاتها، لأنه لو وجب وجودها لما سبقه العدم، ولو استحال وجودها لما وجدت. فعليه لا يمكن أن يرجح وجودها على عدمها إلا بمرجح، وهذا المرجح إما أن يكون ممكناً، أو مستحيلاً، أو واجب الوجود. إذ أن أقسام الحكم العقلي ثلاثة، الواجب والجائز والمستحيل. والممكن عاجز عن إظهار نفسه فكيف يظهر غيره؟! والمستحيل لا يقبل الوجود أصلاً، فكيف يمنحه غيره، فلم يبق من الأقسام الثلاثة إلا واجب الوجود * كذلك كل ممكن تعتوره حالات شتى من الإمكانّ، في الكم (أي المقادير) والكيف (أي الأحوال) والزمان والمكان، والجهة والصفات. فتخصيص كل ممكن على حالة ما دون سائر ما يجوز عليها منها - مع قبولها لها قبولاً ذاتياً، ودون أي تفاوت - لا يتحصل إلا بمخصص، يخصص هذه الحالة دون غيرها. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى دلالة اختلاف الأحوال في الممكنات، وأنها تدل على خالقها الذي خصصها ببعض ما يجوز عليها فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وقال أيضاً: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقال أيضاً: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وقال: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} وقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}. ألا من مستبصر حكيم، كبح جماح هواه، وانعتق من أمر الاستكبار وشهوة العلو في الأرض، فيتدبر هذا * ويقوم مقام معرفة كل عقيدة بدليل لو عرف العقائد بالكشف. أما من عرفها بالتقليد فقد اختلف فيه، والصحيح أنه مؤمن عاص، إن قدر على النظر، وغير عاص إنّ لم يقدر على النظر. وقيل: إنه كافر، وجرى على هذا السنوسي في شرح الكبرى وشنع على القول بكفاية التقليد، لكن حكي عنه أنه رجع إلى القول بكفايته.
- يحتاج للتبيين: إنما احتاج هذا الفن للتبيين لأنه لما حدثت المبتدعة وكثر جدالهم مع علماء الإسلام أوردوا شبهاً على ما قرره الأوائل، وخلطوا تلك الشبه بكثير من القواعد الفلسفية، فقصد المتأخرون إلى دفعها، واحتاجوا إلى إدراجها في كلامهم ليتمكنوا من ردها * وقد افترقت الأمة ثلاثاً وسبعين فرقة منهم فرقة ناجية، وهي التي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واثنان وسبعون في النار كما في حديث عبد الله بن عمر حيث قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي".
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على، ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة".‏
ـــــــــــــــ
7- وَهذِهِ أُرْجُوزَةٌ لَقبْتُها *** جَوْهَرَةَ التَّوْحِيْدِ قَدْ هذَّبتهُا

وهذه أرجوزة: إن هذه الأبيات المنظومة على بحر الرجز ملقبة بجوهرة التوحيد وقد صفيتها ونقحتها من الشبه والعقائد الفاسدة، ومن الحشو والتطويل.
- ومدح الإنسان كتابه يخرج مخرج التحدث بالنعمة والنصح لمن يتعاطاه حتى يكون بمنجاة من خطر التقليد، مع أن مدح الإنسان نفسه جائز في عدة مواضع.
تنبيه: ينبغي اجتناب تسمية الكتب المصنفة بما يضاهي القرآن والوحي، كقول بعضهم (كتاب الاسراءات والمعاريج) أو (مفاتيح الغيب) أو (الآيات البينات) لأنها مزاحمة للنبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعارج، ومشاركة للحق سبحانه في علم الغيب، نقله بعضهم عن المنن لسيدي عبد الوهاب الشعراني، لكن الراجح الجواز.‏
ـــــــــــــ
8- واللهَ أرْجُو في القَبُول نَافِعاً *** بها مُرِيْداً للثَّوَابِ طَامِعَاً

والله أرجو: أي لا أرجو إلا الله. والرجاء لغة: الأمل، وعرفاً: تعلق القلب بمرغوب فيه مع الأخذ بالأسباب وإلا فهو طمع، وهو مذموم، فالممدوح كرجاء الجنة مع ترك المعاصي وفعل الطاعات وقد ذكر الشيخ الخطيب في التفسير حديثاً قدسياً، وهو أن الله تعالى قال: "مَا أَقَلَّ حَياءَ مَنْ يطمعُ في جنتي من غيرِ عملٍ، كيفَ أجودُ برحمْتي على منْ بخلِ بطاعتي".
في القبول نافعاً: معنى القبول الإثابة على العمل الصحيح، والثواب مقدار من الجزاء يعلمه الله تعالى أعده لمن شاء من عباده في نظير أعمالهم الحسنة بمحض اختياره، لا بالإيجاب - كما قال الفلاسفة، وهو عندهم نشوء الثواب عن ذات الله سبحانه وتعالى قهراً كنشوء حركة الخاتم بتحريك الإصبع - ولا بالوجوب كما قال المعتزلة. وإنما قال الفلاسفة بالثواب - مع أنهم ينكرون حشر الأجساد - لإثباتهم حشر الأرواح وأنها تثاب باللذات المعنوية.
بها مريداً للثواب طامعاً: في كلامه هنا إشارة إلى أن العمل لله سبحانه وتعالى مع إرادة الثواب جائز، وإن كان غيره أكمل، فإن درجات الإخلاص ثلاث، عليا: وهي أن يعمل العبد لله وحده امتثالاً للأمر وقياماً بحق العبودية، ووسطى: وهي أن يعمل طالباً للثواب وهارباً من العقاب، ودنيا: وهي أن يعمل لإكرام الله له في الدنيا والسلامة من آفاتها، وما عدا هذه الثلاثة رياء، وإن تفاوتت أفراده، ذكره شيخ الإسلام في شرح الرسالة القشيرية * والمعنى لا أرجو في حصول القبول مني للأرجوزة إلا الله تعالى كونه سبحانه نافعاً بها للمريد، وإني أرجو الله في القبول حال كوني طامعاً في الثواب في الآخرة.‏

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الواجب لله 20 صفة

تعلقات القدرة

المستحيل على الله